مؤكد أن ما يجري على ساحة أقطار الوطن العربي منذ نهاية عام 2010، وبداية 2011 هو حالة من الانقلاب في الحياة. انقلاب جاء بثورات شعبية، بدأت بتظاهرات سلمية، مطالبة بتغيير أنظمة الحكم، وإزاحة الحكام الطغاة، أملاً في معانقة الحرية والديمقراطية، ومعايشة حلم حياة عصرية أكثر كرامة وأكثر سلاماً وقدرة على تحقيق أمنيات المواطن العادي الفقير! لكن الذي حصل منذ قرابة ثلاث سنوات، هو انقلاب حياة المواطن البسيط، وخوضها في مزيد من البؤس والوجع.

Ad

أنهار من الدماء الزكية سالت في ليبيا واليمن وما زالت تسيل كل يوم في سورية ومصر والعراق وتونس وشيء من ذلك في الجزائر والبحرين والأردن وأخيراً السودان، وهذا، مجتمعاً، غيّر وجه الحياة الاجتماعية في معظم بلدان الوطن العربي، التي كانت مستقرة تحت أنظمة حكم دكتاتورية لطغاة مستبدين، لتصبح حياة تُعاش تحت وقع العنف والخوف من قتل يختبئ في خطو اللحظة القادمة.

المواطن العربي، صار يحسب ألف حساب، قبل أن يسافر إلى بغداد أو دمشق أو القاهرة أو تونس أو صنعاء وحتى بيروت والجزائر والخرطوم والمغرب وعمّان.

 نعم، اللحظة التي تمرّ بها أقطار الوطن العربي لحظة مجنونة تحصد الأخضر واليابس، وما عاد معروفا من القاتل، خصوصاً وقتل أعمى على الهوية، أو جنون شباب يائس، يظن أن قتل الأبرياء هو طريقه الى جنة الله الموعودة!

قراءة واقعية في صفحة الواقع السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي، لبلدان المنطقة العربية والدول المجاورة المحيطة بها، وتدخلات ومصالح القوة العظمى، لا تبشر بخير، ولا تشير إلى هدوء واستقرار قريب، ولذا علينا جميعا أن نوطد أنفسنا لاستقبال الأسوأ، وأن نمتلك شجاعة مصارحة أرواحنا: إن ثمن الانتقال إلى معايشة الحرية والديمقراطية وأخوة السلام يستوجب تضحيات باهظة، واننا في بداية طريق التضحيات الذي لا يعلم أحد كم هو ممتد وما تراها تنتظرنا في ظلمته الثقيلة!

أبناء دول مجلس التعاون الخليجي، قد يكون لهم وضع خاص، في كونهم ما زالوا، والحمد لله، محظوظين يعيشون في استقرار ونعمة، وانهم يمارسون حياتهم بوقعها العادي بعيداً عن أي تهديد، مع تأثير كل ما حصل في أقطار الوطن العربي عليهم، بدرجة أو بأخرى. وبنظرة فاحصة يمكن القول بتأثر الحياة الإبداعية والأدبية والفنية كما باقي الحيوات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولأني ومنذ ما يزيد على العقود الثلاثة لا حياة لي خارج الأدب، قراءة وكتابة ووصلاً بالكتّاب والفنانين، فإنني أعاني صباح مساء مما أصاب زملائي الأدباء والفنانين في أقطار الوطن العربي، ويدمي روحي أن ما أصابهم انعكس وينعكس سلباً على المشهد الإبداعي والثقافي العربي بأكمله!

إن زمن الحرب المجنونة لا يترك أمام المواطن الإنسان سوى كوة التفكير بحياته وحياة أفراد أسرته، وتالياً حياة أبناء وطنه، ومستقبل هذا الوطن المنكوب. فزلزال الحرب يهدم استقرار الأنفس، ويأتي بمصائب سوداء طاحنة لم تكن بالحسبان، وليس أقلها هذا الشتات المخيف الذي ألمَّ بأسرة الأدباء والفنانين على امتداد رقعة الوطن العربي، وجعل عدداً كبيراً منهم، يترك وطنه مرغماً ويهيم على وجهه باحثاً عن ملجأ يقيه وأبناءه ويلات الحرب والموت.

اختفى المسرح والتشكيل من بغداد منذ ما يزيد على العقد من الزمن، وها هي ليالي الشام تتشح بالخوف ولا تنيرها إلا لمعة الطلقات والانفجارات المدوية، وكذا خوف مختلف بات يختبئ في شوارع القاهرة الحبيبة، وعلى أرصفة بيروت وبين حواري صنعاء وتونس والجزائر. لقد أصابت الثورات العربية الثقافة في مقتل، وحتّمت على أهلها وضعا مؤلما لابدّ من التكيف معه عل القادم يكون أفضل!