عندما وجه إليَّ المخرج المبدع عاطف الطيب (26 ديسمبر1947 - 23 يونيو 1995)، الذي احتفلنا منذ أيام بالذكرى الثامنة عشرة لرحيله، الدعوة لزيارته في شقته الجديدة في شارع القدس الشريف في حي المهندسين الراقي، فوجئت به يحتفظ في ركن ما بلوحات «كلاكيت»جميع أفلامه، وعندما استشعر ملامح الدهشة على وجهي باغتني بقوله: «... وأحتفظ بسيناريوهات أفلامي وعليها الملاحظات التي كنت أدونها».

Ad

أعلم بدوري، ومن واقع معايشتي الطويلة لعاطف الطيب وهو يباشر تصوير أفلامه الأخيرة، بأنه لم يدخل موقع تصوير أياً من أفلامه إلا وهو يحمل ما يمكن تسميته «السيناريو الإخراجي» أو «الديكوباج» Decoupage؛ فقد كان يسهر لأيام طويلة في التحضير لأفلامه، وتقطيع السيناريو المكتوب إلى  أجزاء صغيرة أو لقطات يُحدد محتواه وحجمها، وزوايا الكاميرا، والمشاهد الخارجية، والمقاطع التي تحتاج إلى الموسيقى أو المؤثرات الصوتية، وربما لهذا السبب اتسمت أفلام عاطف الطيب بدقة الإنجاز والإيقاع الخاص الذي تصعب محاكاته. ظهر ذلك بوضوح في فيلم {جبر الخواطر}، لكن الطيب رحل من دون أن يُكمله، ولما تحمل المسؤولية فنان المونتاج أحمد متولي لم يحقق الفيلم، الذي عُرض بعد ثلاث سنوات من رحيل الطيب، النجاحات التي حققتها أفلامه السابقة، بعدما افتقد فيه الجمهور بصمة ولمسة وإيقاع... وروح عاطف الطيب!

التقيت عاطف الطيب للمرة الأولى في قاعة النيل عام 1987؛ حيث كنت أجري تحقيقاً صحافياً عن صورة ضابط الشرطة في السينما المصرية، بينما كان ينتظر جائزة الإخراج من {جمعية الفيلم} عن فيلم {ضربة معلم}، الذي قدم نموذجاً فريداً، وغير مسبوق في السينما المصرية، لضابط الشرطة الذي يعاني اقتصاديا، كأي مواطن عادي؛ إذ يعيش مع عائلته في شقة شديدة التواضع ويعجز عن إتمام زواجه من الفتاة التي عقد قرانه عليها. لكنه يصمد أمام إغراءات أحد أصحاب الجاه والنفوذ، ويُصر على اقتياد ابنه، القاتل، إلى حبل المشنقة مهما كلفه الأمر. ففي أفلام عاطف الطيب كافة، كان الانحياز واضحاً، ليس إلى هموم المواطن البسيط فحسب، وإنما إلى مبادئ وقيم كثيرة أهمها: العدالة، وضرورة مواجهة الفساد ورد الظلم والمساواة.

اختطف الموت المخرج المبدع، وهو في الثامنة والأربعين من عمره، بعد حياة قصيرة بعمر الزمن لكنها حافلة بكثير من الإنجاز الفني والإبداعي؛ حيث ضم رصيده ما يقرب من 21 فيلماً روائياً طويلاً وعدد من الأفلام القصيرة من بينها: «جريدة الصباح» (1972) و»مقايضة» (1978). وعلى عكس المخرجين الذين اختاروا العمل حسب التوقيت الرسمي والقانوني؛ بمعنى ألا تزيد ساعات التصوير على ثماني ساعات، كان عاطف الطيب يعمل لمدة 18 ساعة في اليوم، وتحول العمل في أفلامه إلى ما يُشبه «الأشغال الشاقة»، وعلى رغم هذا كان الجميع يتسابق للعمل تحت قيادته، لدماثة خلقه وأدبه الجم وثقته في نفسه، فضلاً عن قوته وصرامته، وتوافر مواصفات «القائد» في شخصه؛ فهو الذي طالب نجمة شهيرة أثناء تصوير أحد أفلامه بأن تستعد لتصوير مشهد يهطل فيه المطر بغزارة، وعندما ترددت قليلاً خشية أن تُصاب بنزلة برد انتفض غاضباً وطردها من موقع التصوير!

عمل عاطف الطيب كمساعد للإخراج مع مدحت بكير، محمد شبل ويوسف شاهين، بالإضافة إلى عدد من المخرجين الأجانب، ونقش اسمه بحروف من ذهب في قائمة المخرجين الكبار، ومع هذا لم يَفْرَح بِمَا أتاه اللَّهُ ولَم يكن مُخْتَالاً فَخُوراً، بل كان مثالاً للتواضع وأنموذجاً للإنسان «العصامي» ابن العائلة متواضعة الحال، الذي ولد في محافظة سوهاج في صعيد مصر، قبل أن ينتقل إلى حي بولاق الدكرور الشعبي في محافظة الجيزة، ويعمل أثناء دراسته في المعهد العالي للسينما في مصر مساعداً للإخراج، وبعد تخرجه أمضى سنوات من عمره في الخدمة العسكرية، ولما قدم فيلمه الثاني «سواق الأتوبيس» أصبح أحد أهم مخرجي الثمانينيات والتسعينيات، وهو الأمر الذي يدفعني، في الذكرى الثامنة عشرة للرحيل إلى تبني الدعوة لإقامة متحف خاص بالمخرج الإنسان عاطف الطيب يحفظ تراثه ووثائقه وجوائزه، والكتب التي صدرت عنه، ولوحات «الكلاكيت» والسيناريوهات الخاصة التي أشرت إليها في المقدمة، بالإضافة إلى نسخ أفلامه القصيرة والطويلة. كذلك يستضيف الندوات واللقاءات التي يُدعى إليها النقاد والباحثون والمفكرون لمناقشة الأفلام، التي أبدعها أو تلك التي تناولت منجزه ومسيرته، ولا أظن مطلقاً أن عائلة عاطف الطيب ستمتنع، بعدما غيب الموت زوجته في ذكراه الأولى، عن تزويد المتحف بمقتنياته الشخصية ووثائقه الخاصة، مثلما لا أتصور أن تلامذته ورفاقه ومحبيه، فضلاً عن رجال الأعمال الشرفاء، سيتأخرون عن احتضان الفكرة، في حال عدم اهتمام الدولة، فيظهر المتحف إلى النور قبل حلول الذكرى التاسعة عشرة للرحيل الصادم!