صحيح أنّ القصيدة ليست مجرّد كلام موزون ومقفّى، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ القصيدة خارج إطار الوزن والقافية يصعب تحديدها، لأنّ النثر الفنّي، عند العرب، هو الجغرافية اللغويّة الوحيدة التي يمكن أن تحتضن ما عُرف بالقصيدة الحديثة أو الحرّة أو قصيدة النثر.

Ad

من النصّ الأوّل Basketball يفتح مازن معروف في جديده «ملاك على حبل غسيل» باب الموت، فهو ميت برئتين تمارسان عملهما الطبيعي، وله أن يتعامل مع جثّته بحنان ربّما لأنّ الجسد أكثر الأوطان صدقًا: «جثّتي الرّطبة/ أكوّرها بحنان بين يدي/ ثمّ أجفّفها/ بآخر نفس زفرته قبل أن أموت». وله أيضًا أن يعتبر الموت جسرًا لكن لا شيء بعده واضح إلاّ «الأمام»، ما يعني أنّ مجرّد التقدّم، ولو عبر الموت، يُعتبر نقلة نوعيّة بصرف النّظر إلى أين وبالاكتفاء بمتعة ما اسمها «الأمام»: «مجرّد لفت انتباه/ إلى أنّني/ عضلة/ تستطيع بحيلة اسمها الموت/ قذّف نفسها إلى الأمام».

ولمعروف طريقته في المقاربة، إذ إنّه يخبّئ خلف ستار سخريته أوجاعًا إنسانيّة ووجوديّة كبيرة. ففي نصّ Hand made يحلم بصناعة كوكب مخصّص لأعدائه الذين سيجدون خيرات كثيرة تجعل الجميع يشبعون بسلام، أمّا الحرب فلن تكون إلاّ على آخر لقمة: «نقضم قطعه اللذيذة حين نجوع.../ القطعة الأخيرة منه/ القطعة الأخيرة فقط/ تستحقّ أن نتقاتل لأجلها». بهذه البراءة الساخرة يحاول مازن الهروب من كوكب الإنسان الذي لا يشبع إلاّ برغيف أخيه المصبوغ بدمه. وفي نصّ «S.O.S» يتجلّى الحسّ الإنساني مجدّدًا حين لا يجد مازن ما يتصدّق به سوى صوته، فيذكر بالخير أعداءه متضامنًا مع تعبهم قبل أن يتضامن مع العصافير البانية أعشاشها من قشّ الجوع: «صوتي خبز حاف/ أحلم بتوزيعه على أعدائي المنهكين.../ بتعليقه على أعمدة الكهرباء/ من أجل العصافير»... وبشكل مفاجئ يستدعي معروف إلى نصّه صورة ذات دلالة تتعارض مع ما قبلها وما بعدها: «وأن أيبّسه سقوفًا/ سرعان ما تنهار/ على رؤوس ساكنيها». انهيار السقوف على من تحتها يتعارض مع التصدّق بالخبز على عدوّ منهك وعصفور شريد، كما يتعارض مع إشباع سمكة نافقة وحقن كلب مدهوس بإبرة أدرينالين...

اللغة كائن

ينجح معروف في جعل اللغة كائنًا خفيف الظلّ، ويجهد عن سابق تصوّر وتصميم للإتيان بمجاز واقعيّ، إذا جاز القول، فمجازه مقطوف من خيال لا ينفصل عن ألم الواقع وأشياء الحياة اليوميّة البسيطة وكائناتها التقليديّة. وعلى سبيل المثال نراه في نصّ «أسطوانة» ينقل مشهدًا بكلّ واقعيّته ويذهب به إلى الفضاء الذي يريده: «لا نعرف من أين يأتي كلّ هذا الذباب/ وماذا يفعل / فوق هؤلاء الموتى.../ لكن كلّ ذبابة/ تتحرّك بطريقة مختلفة عن الأخرى/ لأنّ المطلوب منها/ عزف نوتة ما.../ أوقية ذباب/ تستطيع أداء أغنية روك/ في مستودع»... يجتاز الذباب والموتى في هذا الكلام المعنى الشائع للموت، فنغدو أمام مرايا مكسّرة يجمع صاحبها شظاياها كيفما يريد لا كيفما اتّفق. ومازن معروف يريد أن يكون جديدًا بجملة تشبهه، يريد ملاكًا على حبل غسيل لا ملاكًا يمضي مع سربه من سماء إلى سماء. واستكمالاً لحكاية الذباب والموتى يمضي معروف إلى موقف حاد ومتطرّف من الإنسان ليمسي الذباب مطهِّرًا للميت الذي إن وصل كما هو إلى التحلّل في الطبيعة قد يثأر زهرها من بعضه ويقتل غصن أخاه: «إنّها ربّما أغنية/ تدرّب الذباب طويلاً عليها/ لغسل الميت/ من الكراهية/ التي يحاول الآن نقلها/ متنكّرًا بهيئة جثّة نافقة/ إلى الطبيعة».

ويروق لمعروف أحيانًا أن يبني نصًّا متماسكًا كـ{داون تاون» فيحسن متابعة المعنى من ألفه إلى يائه: «أكرّج قلبي المثقوب/ على غطاء السرير/ يرتطم بالباب/ تاركًا زيحًا من الوحل خلفه/ ... الزيح/ ذات ليلة/ سيسمن ويصير شارعًا/ الأصدقاء/ ذات ليلة/ سيسيلون من رأسي أثناء النوم/ وينامون تحت الأشجار/ وأنا/ ذات ليلة/ سأستيقظ خائفًا من الوحدة/ وأتبعهم». بنَفَس سرديّ تابع معروف «زيحه»وأوقف الأشجار إلى جانبه ورعاه إلى أن صار شارعًا يلد الأصدقاء ويؤوي وحدته...

ويروق له أحيانًا أخرى أن يبني نصًّا متماسكًا بفوضاه ويحتمل أن يكون عدّة نصوص كـ{دبّوس ملوّن»، فالمقطع الأوّل فيه يبدو نصًّا مستقلاًّ وما بعده يبدو استئنافًا: «وجهي/ يشبه المسيح/ لكنّني لست حطّابًا/ لأعمل من عظامي/ صليبًا/ وأعلِّق عليه جسدي/ كمعطف المختبرات المتّسخ». حتّى الجملة الأخيرة «كمعطف المختبرات المتّسخ» إضافة لا يحتاج إليها النصّ، إلاّ أنّ معروف شاءها لأنّها تدلّ على أسلوبه وربّما قد يكون خاشيًا الجدّيّة أو الرصانة اللتين ينضح بهما النّصّ فلجأ إلى إثباتها.

خارج الجملة

في أكثر من موضع يظهر معروف وكأنّه خائف من أن يصير خارج جملته فيستأنف الكلام بهدف التأكيد على حضوره الكثيف في نصّه، ومن الأمثلة على ذلك نصّ «دوران» الذي يقوده إلى نهاية يروب فيها النّمل: «يدي/ لن أغسلها/ عطرك/ الذي يتكمّش بأصابعي/ على الأرجح/ سيظنّ نفسه ملاكًا على حبل غسيل. /يدي /بعد قليل /ستركض نحو الشرفة/ هناك/ وتمطر فوق الزراريع/ تمطر كثيرًا/ وتدوخ/ وتدوخ/ كأنّها تروّب النّمل الذي وصل للتوّ». مجدداً، كان بإمكان معروف إنهاء نصّه بكلمة «غسيل»، غير أنّه تابع ووقع في تجربة الهدر اللغويّ الذي يتنافى مع شعريّة النصّ، ليصل إلى نهاية قد تكون تعني له الكثير إلاّ أنها بالغة السورياليّة وطاعنة في الغموض، ولا تبدو العلاقة مقبولة أو شهيّة، بالمعنى الشعري، بين يد تمطر نملاً وعطر على يد كأنه ملاك علق من حيث لا يدري على حبل غسيل.

يتّضح من «ملاك على حبل غسيل» أنّ معروف يبحر شعريًّا في اتّجاه التخلّص من كلّ الموروثات التعبيريّة، وهو لا يكتفي بحداثة النصّ على مستوى الشكل، أي بالتحرّر من الوزن والقافية، إنّما يرمي إلى الإفلات من شبكة اللغة التي يصطاد بها حملة الأقلام، وتأسيس لغة شخصيّة جدًّا، تستطيع أن تقول الحرب بلا دماء وحديد ونار، كما في نصّ «حرب» حيث نرى الولد يلهو بقبّعة، والسلحفاة، و: «الجنود البلاستيكيين / الذاهبين / للاستيلاء على الزرّيعة»، وتستطيع أن تقول الحبّ بملاك على حبل غسيل ونمل سريع الذوبان لا بالقاموس المنتسب إلى جغرافية الجسد والمشاعر...

في «ملاك على حبل غسيل» يتميّز مازن معروف بلغته الشعريّة، ويعقد زواجًا متينًا بين وضوح الواقع وغموض التعبير، ويجازف في نشر الملائكة على حبال الغسيل و{لمّهم» ساعة يشاء، وهو، بكلّ تأكيد جديد، وفي كلّ جديد... مجازفة.