الكتابة الداء والدواء!
الكتابة سلطة ولهذا تُخيف، هي سلطة بقدرتها على قول الحق وكشف بؤر الفساد ومعارضة الإعوجاج في أمور الحياة. وسلطة لوقوفها في وجه القائم المستقر، وتسفيه المتداول والإتيان بالجديد. وسلطة بسبب تعبيرها عن نفسها خارج إطار مبدعها وفرض وجودها الفكري على الآخر، من غير المؤمن بها مهما كانت جبروته ومهما حاول محاربتها وطمسها. وسلطة لأنها تستطيع تجاوز الحدود الجغرافية والانتقال سراً وعلانية دون أن يستطيع أحد الوقوف في وجهها. وسلطة لأنها تمنح صاحبها حضوراً يعزّ على الكثير نيله، ولأنها صعبة وعزيزة لا تُشترى، فكم وكم من متزلف ومدع ومسؤول تافه حاول جاهداً حشر نفسه في زمرة أهل الفكر والإبداع والثقافة، لكنها تنظر إليها باستهانة لتشعره بقيمته الرخيصة، ولتقول له: مكانك خارجاً أيها العابر والطارئ والمدعي والحرامي. وأخيراً هي سلطة لأنها لا تخاف أحداً، ولا تقف إلا لسلطة تجاريها فكراً وحجة بحجة.الكتابة سلطة كأقسى ما تكون السلطة على صاحبها. فحين تتمكن منه وتصاحبه فإنها تفرض عليه شروطها المرّة وتجبره على السير على دروبها الموحشة. الكتابة وحشة، ومن سار على دربها سار على درب موغلة في تعبها وأوجعها. وأنا هنا لا أتكلم عن الكتابة التقريرية، بقدر ما أتكلم عن الكتابة الإبداعية التي تكون بمنزلة الحياة، جاعلة من كل شاردة وواردة مثار نظر وتساؤل. أتكلم عن الكتابة حينما تكون مبدأ وموقفاً من الظلم والخراب والفساد. أتكلم عن الكتابة حينما تكون تأريخاً للمكان والزمان والبشر. وحينما تكون مرآة المجتمع الأصدق والأبقى. ولأننا في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، وصارت الكتابة مطية سهلة فإن الكتابة الحقة صارت عملة نادرة، وصار الإبداع الحق مطلباً صعباً نبذل في سبيله الغالي والنفيس، ولذا فإن الكتابة هي الداء وهي الدواء.
الكتابة داء لأنها تصاحب النَفَس والخطو، تشير لصاحبها طوال الوقت تلكزة بمهماز الوجع، تأمره بقول كلمته الواضحة كالطلقة والصريحة كالماء والقوية كشمس الحق، وأن يكمل دربه حاملاً موته على راحة يده. من يكتب يدفع الثمن، والثمن أثمان هنا: ثمن خروجه على أرث المجتمع البائس والراكد، وثمن صدقه، وثمن صراحته، وثمن تصديه لقول الحق، وأخيراً ثمن تبشيره بالجديد. الكتابة داء لأنها لا ترضى لصاحبها أن يكون إمعة، ولا أن يكون ذليلاً أو مسايراً أو منافقاً، فمن كان بلا كبرياء وعزة نفس فليس من الكتابة بشيء! وفي مسار البشرية ظلت الكرامة على الدوام غالية الثمن، وظل الكتّاب الجادون يدفعون أثماناً لا طاقة لهم بها، حتى لو أودت بهم إلى الموت. فحين تتمكن الكتابة منك، لن تجد لك فراراً منها وسيكون أمامك أن تقول كلمتك الصادقة أو تزيف نفسك وتقول كلمتك التي تدين فيها نفسك وتأخذك إلى الهوان، وهو أصعب أنواع الموت والموات.ولأن الكتابة جميع ما تقدم فهي الدواء. دواء النفس في وجه الظلم واللاعدل، ودواء النفس في قول كلمة إن بقيت في القلب قتلت صاحبها. الكتابة دواء لأن الكاتب قوي كأقوى ما يكون بحرفه وكلمته وجملته. البعض يملك المال ويملك الجاه، والبعض يملك السلطة ويملك الظلم والنفاق والتفاهة والجبروت، ووحده الكاتب فرداً لا يملك إلا نفسه وقلمه وحبه لبلده ومجتمعه والحق والعدالة والاستقامة مراهناً على المستقبل.كل يوم يولد الكثيرون لكن بين هؤلاء من كُتب عليه أن يكون لسان أمته، ومن بين هؤلاء من كُتب عليه أن يصاحب الوجع وجع الكتابة وكتابة الوجع، لكن من بين هؤلاء أيضا من كُتب له أن يعيش على الأرض وهو نجم في السماء!