لا دخان بلا نار!
لا شك في أنَّ الحل الأمثل للأزمة السورية، التي دأبت على مدى أكثر من عامين على الانتقال من السيئ إلى الأسوأ منه، هو الوسائل السياسية والسلمية، لكن الواضح أن نظام الأسد وأعوانه ليسوا في هذا الوارد إطلاقاً، وأن ما يعتبر حداً أدنى بالنسبة لدعاة هذا الحل، الذي هو أصعب من خرط القتاد فعلاً، يعتبر بالنسبة إليهم هو الحد الأقصى المرفوض، والذي لا يمكنهم قبوله مادام فيهم عرق ينبض وبقايا نفسٍ، حتى وإن كان نفساً ملوثاً بغبار المعارك ودخان القذائف والصواريخ التي تنهال على رؤوس أبناء الشعب السوري وأطفالهم ومدنهم وقراهم.حتى الآن هناك اختلاف رئيسي بين الروس والأميركيين على ما يسمى اتفاق مؤتمر جنيف الثاني، فالأميركيون يصرون على أنَّ هذا الاتفاق يعني ضمنياً رحيل بشار الأسد بمجرد التفاهم على تشكيل الحكومة الانتقالية، بينما يصر الروس على أن هذا الأمر غير وارد، وأنَّ الرئيس السوري يجب أن يبقى حتى نهاية المرحلة الانتقالية، حتى لو استطالت إلى موعد الانتخابات الرئاسية عام 2014.
إنَّ هذه مسألة، وهي مسألة رئيسية، أما المسألة الأخرى وهي رئيسية أيضاً فهي أن هناك خلافاً كبيراً على صلاحيات الحكومة الانتقالية، التي من المفترض أن تشكَّل من ممثلين للمعارضة "المعتدلة" ومن رموز رئيسيين من النظام من غير الملطخة أيديهم بدماء السوريين، فالروس بقوا يؤكدون حتى آخر لقاءٍ بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري وبين الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف ضرورةَ أن تبقى المسؤوليات الأمنية والمسؤوليات العسكرية خلال الفترة الانتقالية بيد بشار الأسد، في حين يصر الأميركيون على تجريد الرئيس السوري من كل صلاحياته تمهيداً لرحيله ومغادرة مواقع المسؤولية الرئاسية. لكن ورغم أنَّ هذا هو السائد حتى الآن فإنَّ هذه التحركات الدولية التي يمكن وصفها بـ"المحمومة" تدلُّ على أنَّ هناك بصيص ضوءٍ في نهاية النفق المظلم وأن كل هذه الجهود التي تبذل هي لإقناع الروس بأنهم يراهنون على حصانٍ خاسر وأنَّ رحيل بشار الأسد أصبح حقيقة ملموسة، حتى وإن استمرت هذه الحرب المسعورة بويلاتها ودمويتها ودمارها سنة أخرى قد تتلوها سنة جديدة، وأنه لوضع حدٍّ لما يجري في هذا البلد الراعف لابد من الحسم العاجل ولابد من ممارسة ضغط جديٍّ على الرئيس السوري ليرفع يديه ويستسلم لإرادة شعبه.إنه لا دخان بلا نار، ولهذا فإنه، في ضوء كل هذه الاتصالات الدولية وتحول موسكو إلى محجٍّ للعديد من كبار صناع القرار في العالم، لابد أنَّ هناك شيئاً جدياً يجري التفاوض بشأنه رغم تباعد المواقف، وهنا فإنَّ هناك من يذهب في تفاؤله إلى حدِّ القول بأنَّ رحيل بشار الأسد أصبح قضية محسومة، وأن الجهود التي تبذل الآن تتركز على إيجاد "مأوى" له ولزبانيته وبعض المقربين منه ومن عائلته، كما تتركز أيضاً على الاتفاق على ضمانات لجهة عدم ملاحقته وكذلك عدم ملاحقة الملطخة أيديهم بدماء السوريين من رموز حكمه.إنَّ هذا هو ما يقال، وإن ما يعزز هذه المعلومات وهذه التوقعات والاجتهادات أن النظام السوري باتت تراوده بعض الشكوك إزاء مواقف حلفائه الروس، ولهذا فإنه توجَّه إلى موسكو بالعديد من الأسئلة حول حقيقة جدول أعمال المؤتمر الدولي الذي يجري الحديث عنه لحل الأزمة السورية، وحول ما سيطرح فيه، ولهذا أيضاً فإن هذا النظام قد لجأ في الوقت ذاته إلى كل هذا التصعيد العسكري التدميري ليقول لحلفائه قبل "أعدائه" إنه لايزال صامداً! وإن لديه الاستعداد للاستمرار في القتال عشر سنوات جديدة.