العلاقات الأميركية الروسية... من أزمة إلى أخرى!
لم يتطرق الكونغرس الأميركي بعد إلى الضحايا الذين عانوا انتهاكات كتلك التي تحملها المحامي الروسي ماغنيتسكي على يد مسؤولين من دول أخرى، لا سيما الدول التي ترتبط بعلاقات اقتصادية أو أمنية وثيقة مع الولايات المتحدة.
لا تزال التقلبات المدمّرة في العلاقة الأميركية الروسية مستمرة من دون توقف. حصل التطور الأخير في الأسبوع الماضي، حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه سيوقّع على قانون بعد أن يمرره مجلس الدوما لمنع المواطنين الأميركيين من تبني الأطفال الروس، فضلاً عن احتوائه أحكاماً أخرى. كذلك، يمنع هذا القانون المنظمات غير الحكومية من تلقي الأموال من الولايات المتحدة لتنفيذ أي نشاط سياسي إذا اعتُبر ذلك النشاط "مضراً" بالمصالح الروسية، كما أنه يمنع دخول أي مسؤول أميركي إلى روسيا إذا كان متهماً بانتهاك حقوق الإنسان.يحمل هذا القانون اسم "ديما ياكوفليف"، وقد سُمّي تيمناً بالصبي الروسي الذي تبناه أميركيون ومات اختناقاً بسبب الحرارة بعد أن نسيه والده بالتبني داخل مركبة في فيرجينيا في عام 2008. يُعتبر هذا القانون رداً على قانون "سيرغي ماغنيتسكي" الذي يفرض قرارات بحظر السفر وعقوبات مالية على المسؤولين الروس المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان. عملياً، كان "قانون ماغنيتسكي" يهدف إلى التعبير عن السخط الأميركي من الظروف المحيطة باعتقال ومقتل المحامي سيرغي ماغنيتسكي.
كان من المتوقع أن يتذمر الكرملين من أي نوع من التحركات الأميركية التي تهدف إلى فرض عقوبات ضد المسؤولين الروس. لكن كانت طريقة تصرف الكونغرس شائكة ومثيرة للجدل أيضاً.أولاً، نظراً إلى وجوب الاختيار بين قانون "عالمي" (يفرض عقوبات ضد المسؤولين الحكوميين في أي بلد متهم بانتهاك حقوق الإنسان بشكل منهجي من دون مواجهة أي نوع من المحاسبة من النظام القضائي المحلي) وقانون يركز على روسيا حصراً، اختار الكونغرس القانون الثاني. لم يتطرق الكونغرس الأميركي بعد إلى الضحايا الذي عانوا انتهاكات كتلك التي تحملها ماغنيتسكي على يد مسؤولين من دول أخرى، لا سيما الدول التي ترتبط بعلاقات اقتصادية أو أمنية وثيقة مع الولايات المتحدة.ثانياً، أعطى الكونغرس انطباعاً سيئاً بعد أن فشل في تحرير روسيا من عقوبات "جاكسون- فانيك" التي صدرت في عام 1974 على رغم التأكيدات الرئاسية المتكررة (من الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين معاً) على أن روسيا تلتزم بأحكام ذلك القانون منذ عام 1994: تبين أن هدف الكونغرس الحقيقي من ربط عقوبات ماغنيتسكي بضمان علاقات تجارية عادية ودائمة هو معاقبة موسكو (بسبب ارتكابها مجموعة كاملة من الأخطاء التي تتراوح بين حظر صادرات الدجاج وفرض ضوابط على نشاطات الإرساليات التبشيرية الدينية الأميركية) ومتابعة ضغوط الكونغرس في ما يخص طريقة إدارة العلاقات الثنائية من جانب الرؤساء الروس والأميركيين.على الرغم من الحديث عن سياسة إعادة ضبط العلاقات وأهمية الشراكة، تبرز نزعات قوية في واشنطن وموسكو على حد سواء وهي تبدو مستعدة للسير في الاتجاه المعاكس من أجل تسليط الضوء دوماً على أسوأ جوانب الفريق الآخر. لم يتحسن الوضع نتيجة انتشار النزعة الأميركية إلى الانحياز ضد روسيا تلقائياً في حال نشوب أي صراع بين روسيا والدول المجاورة لها، فضلاً عن إصرار المسؤولين الروس على مسايرة خصوم الولايات المتحدة الجيوسياسيين مثل إيران أو فنزويلا. بعد تمرير تشريع ماغنيتسكي كجزء من الحزمة الكاملة التي تمنح روسيا أخيراً علاقات تجارية عادية ودائمة (ما يفتح المجال أمام الشركات الأميركية كي تستفيد من العضوية الروسية في منظمة التجارة العالمية)، عمدت روسيا في المقام الأول إلى اقتراح تشريع "موازٍ" يمنع المسؤولين الأميركيين الذين تتهمهم روسيا بانتهاك حقوق الإنسان من دخول روسيا. لكن سرعان ما اتضح أن الروس يهتمون بالسفر إلى الولايات المتحدة وإقامة علاقات عمل معها بينما لا يبادلهم الجانب الأميركي الرغبة نفسها. بالتالي، لن يؤدي نسخ التشريع الأميركي إلى أي آثار مهمة. رفع مجلس الدوما بذلك حجم المخاطر، فهو لم يكتفِ بفرض حظر على السفر بل ركز أيضاً على مجالين آخرين: منع المواطنين الأميركيين من تبني الأيتام الروس (منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وجد حوالي 60 ألف طفل منازل لهم في كنف العائلات الأميركية) وفرض ضوابط جديدة على الجماعات المموّلة من الولايات المتحدة. (تتعلق مسألة بارزة أخرى بطريقة استعمال الأيتام كرهائن في الصراع السياسي لأن الأيتام الذين لا يتبناهم الأميركيون لن يتبناهم الروس أو أوروبيون آخرون).كان الجانب الروسي حذراً طبعاً حين قرر عدم التركيز على جوانب العلاقة الأميركية الروسية التي تمنح منافع جلية إلى روسيا. بالتالي، لم تُفرَض أي عقوبات على الشركات الأميركية التي تستثمر في قطاعات أساسية من الاقتصاد الروسي (لم تفرض روسيا مثلاً أي حظر على الشراكة بين الشركة النفطية الحكومية الروسية "روسنفت" و"إكسون موبيل"، وهي علاقة ضرورية إذا أراد قطاع الطاقة الروسي تطوير نفسه، لا سيما في منطقة القطب الشمالي). كذلك، لم يقرر مجلس الدوما فرض أي ضوابط على استمرار عمل "شبكة التوزيع الشمالية" التي تنقل الإمدادات وفِرَق العمل إلى أفغانستان (هذه الشبكة ليست مجرد حبل نجاة أساسي بالنسبة إلى الولايات المتحدة وقوات حلف الأطلسي بل إنها مصدر مربح أيضاً للشركات الروسية).حين مرر مجلس الدوما قانونه، كان يمكن أن يعلن الرئيس بوتين أنه يتفهم مشاعر السخط الروسية قبل أن يقرر معارضة ذلك القانون للحفاظ على علاقات حسنة مع واشنطن، لكنه لم يقم بهذا الخيار. ليست المرة الأولى التي يختار فيها الرئيس أن يكون سياسياً محلياً بدل أن يصبح رجل دولة له ثقل دولي.أصبحت الكرة الآن في ملعب الولايات المتحدة، لكن يمكن أن يتغير هذا الوضع قريباً، ففي شهر نوفمبر، حتى قبل تمرير القانون في مجلس الدوما لحظر نشاطات المنظمات غير الحكومية التي ترعاها الولايات المتحدة، ذكرت عضوة بارزة في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور جين شاهين، أن المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا لن تكون كافية للحفاظ على تلك العلاقة، بل إن الحكومة الروسية التي تحترم حقوق وحريات شعبها ستصبّ في مصلحة الولايات المتحدة.بعد فهم هذه الأمور ونظراً إلى توقيت منع التبني في موسم عيد الميلاد، ستتصاعد الضغوط على الكونغرس وعلى الرئيس أوباما كي يردّا بالشكل المناسب. يتم التداول بفكرة واحدة منذ الآن، وهي تقضي بتطبيق عقوبات ماغنيتسكي على المشرعين الذين صوتوا في مجلس الدوما لمصلحة القانون، الأمر الذي سيثير ردة فعل عكسية من مجلس الدوما طبعاً. في الوقت الراهن، لا تزال بعض الجوانب الأساسية من العلاقات الأميركية الروسية (مثل الشراكة في ملف أفغانستان، والتعاون في منطقة القطب الشمالي، وبعض المسائل الأمنية الأساسية الأخرى) محصنة بما يكفي في وجه تلك المشاكل الأخرى في العلاقة الثنائية. لكن استمرار تراجع التقدم الذي أُحرز في سياسة "إعادة ضبط العلاقات" خلال عهد ديمتري ميدفيديف وولاية أوباما الأولى قد يهدد هذه المسائل أيضاً.ما يحدث الآن يؤكد أن أبرز الخلافات العلنية بين واشنطن وموسكو قد تؤدي إلى "أثر تراكمي" وقد تهدد في نهاية المطاف المجالات المثمرة من هذا التعاون. ينذر عام 2013 بإطلاق محاولات صعبة لإعادة الهدوء إلى العلاقات الأميركية الروسية.* نيكولاس غفوسديف | Nikolas Gvosdev