ما قل ودل: قانون الميزانية والحساب الختامي أقدم وأرقى وسائل الرقابة البرلمانية (1 من 2)
في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013 التي صححت مسار ثورة 25 يناير 2011، وفي خطوة على خطى خارطة الطريق التي وضعتها كل القوى السياسية، بما فيها التيار الإسلامي المعتدل، أصدر المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية المؤقت في 21 يوليو 2013، قراراً بتشكيل لجنة الخبراء، المنصوص عليها في المادة (28) من الإعلان الدستوري الصادر في 8 يوليو سنة 2013، والذي تضمن تعطيل دستور 2012.وهم نخبة من مستشاري المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض ومحكمة الاستئناف، ومجلس الدولة، وأساتذة من جامعات القاهرة وعين شمس والمنصورة والزقازيق.
عهد إليهم قرار رئيس الجمهورية بمراجعة نصوص دستور 2012، لإدخال ما يرونه من تعديلات على الدستور المعطل بعد دراسة ما لديهم من اقتراحات تكون قد تلقتها من أي جهة.وقد أثلج هذا القرار صدر الكثيرين باعتباره خطوة صادفها التوفيق، حتى لا نقع مرة أخرى في النفق المظلم الذي أدخلتنا فيه الجمعية التأسيسية، التي كانت الأغلبية فيها لتيار سياسي تغيب عنه مهنية التصدي لوضع دستور للبلاد، فضلاً عن الهوى والغرض السياسي.وخرجت لجنة الخبراء العشرة، بمشروع لتعديلات دستورية، شملت أغلب نصوص الدستور، وهي تعديلات أصابها العوار الدستوري ذاته الذي أصاب دستور 2012.وإذا كان دستور 2012 قد أصاب جميع القوى السياسية وكل أطياف المجتمع بخيبة أمل في الجمعية التأسيسية التي وضعته، فهو دستور لم يتجاوب مع أهداف الثورة، ولم يجسد فكرها ومتطلباتها، فكر شباب مصر الذين أشعلوا شرارتها الأولى، وقدموا أرواحهم الزكية قرباناً لها، فالتفّ حولها الشعب بكل أطيافه وفئاته وتوجهاته، الشعب الذي كان يحمل مشاعر الغضب ذاتها ضد الفساد والرشوة ونهب ثروات البلاد.إلا أن خيبة الأمل في تعديلات لجنة الخبراء العشرة كانت مضاعفة الأثقال؛ لأن العوار الدستوري الذي أصاب التعديلات عوار مبرأ من الغرض والهوى، الذي استولى على لب وعقل الجمعية التأسيسية، فهو عوار مهني لا يقبل ولا يستساغ من لجنة شكلت من الخبراء الفنيين القادرين على وضع دستور، يليق بمصر وثورة شباب مصر، وثورة 30 يونيو التي صححت مسارها. وأستميح القارئ عذراً، عدم التقيد بترتيب النصوص أو ترتيب الموضوعات، كما وردت في مشروع اللجنة، في قراءتي المتأنية لهذه التعديلات، للوقوف على أوجه النقص أو القصور فيها.فأبدأ بالرقابة التي يمارسها نواب الشعب على إقرار الميزانية العامة للدولة والحساب الختامي والتي زاغ بصر لجنة الخبراء العشرة عنها، وهي من أكثر وسائل الرقابة جدوى وفاعلية.وكان الأمل كبيراً في ثورة قامت للقضاء على الفساد الذي سرى واستشرى في البلاد في نظام تزاوج فيه المال بالسلطة، بأن يعنى دستورها بالرقابة البرلمانية على الميزانيات العامة والحسابات الختامية، لكشف جوهرهما وتفعيل دورهما المهم والأساسي في حماية المال العام، لتتبوأ هذه الرقابة مكانها كأقدم وأرقى رقابة برلمانية دورية يمارسها البرلمان منذ نشأة الحياة البرلمانية في العالم... لأن الأرقام لا تكذب.فمن خلال الميزانية تبسط البرلمانات رقابتها على خطة الحكومة وبرنامجها للحكم، من خلال ما تكشف عنه أرقام الميزانية، من قصور في تحقيق أهداف هذه الخطة أو عدم سلامة تعبيرها عن هذا البرنامج، وللكشف عن أي انحراف في تحقيق أهداف السياسة العامة ومتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو أي انحراف عن استخدام الميزانية العامة كأداة للتوجيه الاجتماعي والاقتصادي، بافتراض أن الأرقام التي اشتملت عليها الميزانية قد بنيت على استخدام هذه الأدوات وتحقيق تلك الأهداف.كما تبسط البرلمانات رقابتها على الحسابات الختامية، للكشف عن أي إفراط أو تفريط في المال العام، الذي نص الدستور على صون حرمته، وجعل حمايته واجباً على كل مواطن، كما تشمل الرقابة البرلمانية على الحسابات الختامية بالضرورة الكشف عن مخالفة الصرف للتقديرات الواردة في الميزانية، كأن يكون المصروف غير وارد في الميزانية أو زائداً على تقديراتها، كما قد يقع تنفيذ الميزانية في حومة مخالفة الدستور كذلك، إذا تم الصرف من تقديرات الميزانية بالنقل من باب إلى آخر من أبوابها.فما الذي فعلته لجنة الخبراء بهذه الرقابة البرلمانية؟اجتزأت اللجنة المبادئ الدستورية المنظمة لهذه الرقابة في نص واحد، هو نص المادة (99) من الدستور، والتي تمخضت أحكامها إهدارا لهذه المبادئ، وهو ما سنتناوله في مقال قادم باذن الله.