غير معروف كيف أنَّ نظام بشار الأسد قد كسب جولة في صراعه مع شعبه بعد "همْروجة" ومسرحية تفكيك أسلحته "الكيماوية"، التي ستُثبِت الأيام أنها كانت لعبة روسية وربما أميركية أيضاً، طالما أنَّ الصراع في "القطر العربي الشقيق" سيبقى مستمراً وطالما أنَّ قصر النظر السياسي الذي يعانيه هذا النظام قد حوَّل سورية إلى ساحة صراعٍ إقليمي ودولي وأدخلها في "بلْقنة" وفي تصفية حسابات بين الدول المتناحرة، إنْ في هذه المنطقة البائسة وإنْ في العالم بأسره.

Ad

قبل الحادي والعشرين من أغسطس الماضي، ذلك اليوم الحالك السواد الذي ذبح فيه هذا النظام، الذي أدخل سورية في نفق مظلم قد لا تخرج منه سنوات طويلة، شعبَه بالأسلحة المحرمة دولياً، لم يكن التدخل العسكري الأميركي في الأزمة السورية مطروحاً على الإطلاق، لا من قريب ولا من بعيد كما يقال، ولذلك، وعلى افتراض أن الروس قد نجحوا في "مسرحية" التخلص من الأسلحة الكيماوية، وهم لن ينجحوا، فإنَّ الذين "طاروا فرحاً" وألْهبوا أكفهم تصفيقاً لانتصار موهوم سيكتشفون أنَّ الخط البياني لهذا الصراع الدموي قد بقي متصاعداً، وأنه كان بمنزلة إغماض العيون عن الحقائق، والقول إن بوتين ومعه الأسد كسبا جولة سياسية، وإن المعارضة ومن معها قد خسروا هذه الجولة.

لقد دخلت سورية وضعية وحالة "البلْقنة"، ولقد بقي الروس يتلاعبون بهؤلاء الذين يحكمون هذا البلد في هذه المرحلة التي هي مرحلة تحولات تاريخية هائلة مع رحيل القرن العشرين ودخول العالم الألفية الثالثة والقرن الحادي والعشرين بكل مستجداته ومتغيراته واستحقاقاته، وهذا يعني أنَّ بوتين بألاعيبه واقتراحاته و"فذلكاته" قد زاد هذه الأزمة التي تحولت إلى أزمة إقليمية ودولية تعقيداً، وجعلها أبعد كثيراً عن الحل السياسي "جنيف 2" الذي كان يجري الحديث عنه، والذي ساد اعتقاد، لدى الذين لا يعترفون بحقيقة التداخلات التي ترتبت على انفجار الأوضاع قبل عامين ونصف، أنه أصبح في متناول اليد.

ستكون جريمة الحادي والعشرين من أغسطس الماضي مدخلاً لامتداد أيادٍ كثيرة إلى هذه الأوضاع السورية التي غدت مفتوحة على أسوأ الاحتمالات، والتي ازدادت سوءاً بعد هذه الجريمة النكراء، وبعد تمادي فلاديمير بوتين في استفزاز باراك أوباما وإدارته. فسورية بعد تطورات الأيام الأخيرة تكرست فعلاً إلى ميدانٍ عسكري وسياسي لتصفية الحسابات الدولية، وسيرى المتفائلون، الذين ظنوا أنَّ الأمور قد حُسِمت وأن الرئيس السوري قد فعل ما يريده، كيف أنَّ ما هو قادمٌ أعظم، وكيف أنَّ جولات جديدة ستكون أصعب كثيراً من كل الجولات السابقة، وأن محكمة الجنايات الدولية باتت تنتظر بشار الأسد وفي فترة قريبة.

ربما لن تكون هناك الضربة العسكرية الأميركية التي كانت مرتقبة ومتوقعة في أيِّ لحظة، لكن هذا لا يعني أن جريمة الكيماوي ستَمر وفقاً لما يسعى إليه الروس ومعهم إيران وبعض المؤلفة قلوبهم في هذه المنطقة والعالم، كما أنه لا يعني أنَّ المعارضة السورية ومن يقفون إلى جانبها سيرفعون أيديهم وسيستسلمون، فالمواجهة قد بدأت تتخذ مساراً خطيراً والسلاح "الفتاك" بات يتدفق على الجيش الحر على نحو سيعزز الانتصارات التي كان حققها في ميادين قتال كثيرة بانتصارات جديدة قريبة.

هناك الآن تبادل عض أصابع بين روسيا ومن معها من جهة وبين الولايات المتحدة ومن معها من جهة أخرى، وهناك الآن إثباتات على الطريق ستعزز حقيقة أن نظام بشار الأسد قد ارتكب جريمة الأسلحة الكيماوية ضد أطفال الشعب السوري... لقد وقع هذا النظام في شرك سوء أعماله، والمؤكد أن الأيام القليلة المقبلة ستحمل الكثير من المستجدات فـ"اللعبة" لا تزال في بداياتها، وعلى الذين يعيشون الآن نشوة انتصار كاذب أن يدركوا أن الأزمة لم تبدأ بـ"الكيماوي" ولا باستخدامه بهذه الطريقة البشعة، بل باختيار الحلول الأمنية والبطش والدبابات والصواريخ لمواجهة مطالب شعب لم يَعُد يحتمل، بعد أربعين عاماً، المزيد من الإذلال والإهانات والعنف وحكم الأقبية والزنازين المخابراتية.