البكاء على «المشروع الإسلامي»

نشر في 21-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 21-07-2013 | 00:01
 ياسر عبد العزيز في أحد أيام شهر نوفمبر من العام الماضي، شاركت في حلقة عمل ضيقة مغلقة في مكتبة الإسكندرية؛ وهي الحلقة التي ضمت عدداً من كبار المثقفين والخبراء والنشطاء السياسيين، لمناقشة "خريطة طريق" يمكن من خلالها الخروج من الأزمات السياسية المتكررة التي شهدتها البلاد منذ صعود "الإخوان" إلى سدة الحكم قبل أكثر من سنة.

مازلت أذكر أن أحد كبار القانونيين والمؤرخين المصريين؛ وهو أيضاً أحد الذين وضعوا أول خريطة طريق قانونية/ سياسية للبلاد في أعقاب إطاحة مبارك، حرص على أن يقول بوضوح خلال الحلقة إن "التوجه الإسلامي حتمي في مصر... لأنه خيار شعبي يمكن رصده بوضوح".

على أية حال، فقد سألت المؤرخ والقانوني الكبير سؤالين؛ أولهما: "ما دلالة أن التوجه الإسلامي خيار شعبي واضح؟"، وثانيهما: "ما التوجه الإسلامي؟... وبتعبير آخر كيف يمكن أن تشرح لنا المشروع الإسلامي في الحكم؟".

لقد تحدث هذا المؤرخ الكبير المحترم كثيراً، ومما قاله في التدليل على التوجه الإسلامي إن نتائج الانتخابات تؤكد ذلك، وإن انتشار الحجاب بين الفتيات والسيدات في مصر يوحي بذلك أيضاً.

لكنه حين حاول أن يلخص ما يفهمه عن "المشروع الإسلامي في الحكم" قال كلاماً كثيراً لن يكون بوسعي شرحه هنا؛ لأنني لم أفهمه، ولأنه لم يكن مندرجاً تحت نقاط أو عناوين واضحة، بقدر ما كان أحاديث إنشائية متضاربة عن تصور أخلاقي وقيمي غير قابل للترجمة في سياسات حكم وإدارة.

يهتف المعتصمون في ميدان رابعة العدوية من أنصار الرئيس المعزول مرسي الآن هتافات من نوع "بالروح بالدم نفديك يا إسلام"، و"القرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، ويقول قادتهم على منصة الاعتصام بانتظام إن ما جرى في مصر في 30 يونيو الفائت لم يكن سوى محاولة لـ"دحر الإسلام"، و"القضاء عليه".

يصعب جداً أن يصدق من هو مثلي هذا الكلام لأسباب عديدة؛ أولها: إن الإسلام في مصر يُخدم ويصان ويزدهر باطراد، وهو يحتل مطمئناً أفضل مكانة على الإطلاق في البلاد، وحتى هؤلاء الذين يعارضون الإسلام أو يناهضونه، إن وجدوا، لا يمكن أن نعرفهم، لأنهم لن يكونوا قادرين على الحديث علناً عن أفكارهم تلك.

السبب الثاني يتعلق بأن التيارات الليبرالية واليسارية بل والكنائس والعلمانيين والملحدين المصريين لا يجادلون في كون الإسلام المرجعية القيمية والأخلاقية الراجحة للبلاد، بل ويؤيدون بشدة المادة الثانية من الدستور المصري الساقط مطلع الشهر الجاري، والدستور الذي سقط في فبراير 2011، والتي تشير إلى أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".

أما السبب الأهم فهو أن جماعة "الإخوان المسلمين"، التي هيمنت على غرفتي البرلمان، والجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، والرئاسة، والحكومة، ودولاب الدولة، ووسائل الإعلام العامة خلال الحكم الساقط، لم تفعل أي شيء يمكن من خلاله أن نفهم أنها "تنتصر للإسلام"، أو "تزيد من مساحة الدور الذي يلعبه في الحياة العامة"، أو "تُفعّل معايير معينة فيه تم تجاهلها من نظم الحكم الأخرى".

لقد سعت جماعة "الإخوان" مثلاً من خلال الرئيس والحكومة السابقين إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي بفائدة قال بعض المتشددين إنها "ربوية"، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق أيضاً على الودائع القطرية في البنك المركزي المصري، والتي تم الترحيب بها من قبل نظام مرسي بشدة.

الأمر نفسه ينطبق على المجال السياحي، الذي شهد تأكيدات من كبار المسؤولين فيه على استمرار سياساته على النحو المعتاد، مع الإشارة بوضوح إلى أنه لن يتم الحد من رغبات السائحين الأجانب في ارتداء "البكيني" أو تناول "المشروبات الكحولية".

أما في ما يتعلق بإسرائيل، فقد كان الأمر غاية في الوضوح؛ إذ رعت إدارة مرسي الهدنة بين الدولة العبرية و"حماس"، وقد التزمت الأخيرة على مدى سنة كاملة عدم الإتيان بأي فعل من شأنه أن يعكر صفو أمن إسرائيل، وهو ما استلزم تهنئة من أوباما لمرسي، في شهر رمضان الماضي، على جهوده لعقد الهدنة، وإشادة من نتنياهو بأداء الرئيس المصري "الإخواني" المناصر للسلام.

مرسي من جانبه لم يقصر في هذا الإطار أبداً، بل أرسل لنظيره آنذاك شمعون بيريز خطاباً وصفه فيه بـ"الصديق الوفي"، وتمنى في نهايته للدولة "الصديقة" إسرائيل "التقدم".

كل ما فعله مرسي ونظامه خلال السنة التي حكم فيها مصر في ما يتعلق بتوجهه الديني لم يخرج عن انتظامه في أداء الصلوات علناً، وإلقاء الخطب في المساجد، والغمز من قناة "الليبراليين" الذين "لا يعرفون شيئاً عن صلاة الفجر"، وتضمين خطاباته آيات قرآنية وأحاديث دينية، والوعد بـ"تطبيق الشريعة"، والصيام أيام الاثنين والخميس (كما قال القيادي الإسلامي المعروف صفوت حجازي)، وأخيراً رعاية مؤتمر تم استهداف الشيعة خلاله ووصفهم بـ"الأنجاس"، وهو المؤتمر الذي أعقبه قتل أربعة من الشيعة المصريين وسحلهم في إحدى القرى القريبة من القاهرة.

لم يشكل هذا التوسل بالإسلام في الأقوال والمظاهر وهذا الجفاء إزاءه في الممارسة أي مفاجأة لشخص مثلي، ليس فقط لأن المؤرخ الكبير الذي رأى أن التوجه الإسلامي يمكن رصده في صورة "المصريات المحجبات" في الشارع، لم يكن قادراً على تفصيل "المشروع الإسلامي" بشكل واضح، ولكن أيضاً لأن أحداً لم يكن قادراً على ذلك طوال عام كامل أمضاه الإسلاميون في حكم مصر.

إذا قمت بتحليل برنامج حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية لجماعة "الإخوان") الذي خاض على أساسه الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، فلن تجد أي شيء يمكن أن يدل إلى هذا "المشروع الإسلامي". وإذا استعرضت مثلاً ما فعلته الجمعية التأسيسية التي صاغت الدستور الساقط في 3 يوليو الجاري إزاء "التوجه الإسلامي" في الدستور، فلن تجد إلا محاولات لإخضاع الدولة لرأي علماء دين مختارين (المادة 4)، وإتاحة فرض رؤية اجتماعية وأخلاقية ذات توجه إسلامي على المجتمع (المادة 10)، وتوسيع مفهوم مبادئ الشريعة الإسلامية ليتضمن على سبيل المثال "أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنّة والجماعة" (المادة 219).

لذلك، فقد حرصت منذ وصل "الإخوان" إلى سدة السلطة في مصر على السؤال بانتظام عن "ملامح المشروع الإسلامي" المقترح، سواء في ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو حتى في ما يخص العلاقات الدولية.

والواقع أنني لم أجد أي إجابة شافية عن أي من تلك الأسئلة، ولم يظهر حيال ذلك سوى عدد من الأقوال التي يمكن مصادفتها في موضوعات إنشاء يكتبها طلاب بالمدارس الإعدادية، أو توجهات كتلك التي ترد في برامج الأحزاب المدنية المختلفة، وبعض المقترحات التي لا تنتظم في نسق فكري أو عقيدي، كما لا يمكن أن توصف بالمنطقية أو الرشاد، فضلاً بالطبع عن خوائها وفسادها وفشلها الواضح والمبرهن عليه أحياناً. خلال الأيام الماضية التي تلت إسقاط نظام "الإخوان" في مصر، حرصت على أن أسأل عدداً من "الإسلاميين" المستنيرين، أو "أبناء المرجعية الإسلامية" المتداخلين في الحراك السياسي الدائر راهناً، أو حتى هؤلاء الباحثين والمفكرين المعروفين بانتمائهم لليمين الديني المحافظ عن "ورقة" أو "بحث" أو "إعلان" عن "ملامح المشروع الإسلامي" الذين يريدون له أن يكون جزءاً من صناعة المستقبل في مصر، وقد أجاب الجميع بضرورة أن يحدث ذلك، وبإمكانية أن يقوموا بذلك، وبسهولة أن ينجزوا ذلك... لكن أحداً منهم لم يتح لنا هذا الإنجاز حتى الآن.

ثمة مئات، بل آلاف، الكتب والأطروحات والأبحاث التي تتوافر في مصر والعالمين العربي والإسلامي الآن عن اقترابات إسلامية إزاء الحياة المعاصرة بكل تشعباتها وقطاعاتها، لكن الإسلام السياسي الذي يحكم في تونس اليوم، وأُطيح من حكم مصر للتو، وينادي بالحكم في غير بلد من بلداننا العربية لم يعلن بوضوح خطته للحكم، ولا برامجه "الإسلامية" للإجابة عن أسئلة محددة ومواجهة تحديات تم تشخيصها بالفعل.

إذا وجد أحدكم مشروعاً مكتوباً تحت عنوان "كيف يحكم الإسلام السياسي؟"، وعناوين فرعية تؤشر إلى مجالات الاقتصاد، والسياسة، والعلاقات الدولية، والسياحة، والتعليم، والعدالة الاجتماعية، والإعلام، والحريات، و...، فليدلني عليه.

* كاتب مصري

back to top