مأزق المرأة الشاعرة «7»

نشر في 30-07-2013
آخر تحديث 30-07-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس لم يقف الشعر النسوي -مطلع القرن العشرين- عند حدود ما يقرّه المجتمع الذكوري من أعراف اجتماعية فحسب، بل امتدت هذه النزعة الذكورية في شعر نساء هذه المرحلة إلى منطقة حرجة من مناطق الشعر وهو الشعر الوجداني. فقد أدرجت عائشة التيمورية على سبيل المثال مصطلح "الشعر الغزلي" ضمن تقسيمات ديوانها، وهو يبدو اختياراً فجاً وملمحاً من ملامح امتثالها لقيمة فحولية خالصة في ظاهرها وباطنها أيضاً.

فمصطلح "الغزل" كما أعتقد وأشعر معنى يقرّ في يقين الرجل حين "يتغزّل" بالمرأة، فيصف حُسنَها ولفتتها وإقبالها وإدبارها وما سوى ذلك من ملامح جسدية غالباً، وكلمة "الغزل" أليق بمشاعر الرجل ونوازعه وتلطفه مع المرأة. ولكنني أجد في كلمة "الغزل" شيئاً من الفجاجة والغرابة حين تستخدمها المرأة، وتقصد بها التعبير عن مشاعرها إزاء الرجل! إذ ما أغلظ أن تتغزل المرأة بمشية الرجل أو لواحظه أو صفحة خده!

والناظر في فحوى ذلك "الشعر الغزلي" سوف يرى إلى أي مدى كانت تتلبس التيمورية روح الرجل ونوازعه ولغته في موضوعاتها الوجدانية، فتغوص في دوامة تعبيرات فحولية خالصة من أمثلة تعبيرات "الصدود"، و"الغزال"، و"الغصن"، و"الوجنات"، و"النعاس" و"رشف اللمى" و"الظبي" و"الرضاب" و"اللواحظ"... إلخ:

أفديك من غصنٍ وريقٍ بالحِلى             تزهو بوجنات وريق قد حلا

وتغضُّ جفناً بالنعاس مُعسّلا               فاسمح برشف لمىً يفوق السلسلا

تفسّر مي زيادة النزعة النسوية في تلبّس شخصية الرجل في مجال الشعر الوجداني في دراسة لها عن عائشة التيمورية، فتقول: "لقد رأينا أنها تتكلم بلهجة الرجل، وذلك راجع طبعاً إلى أمرين هما: أولاً، عادة الضغط على عواطف المرأة وإخراس صدقها، فكان أيسر لها أن تتخذ لهجة الرجل المصرّح له بما يُحظر عليها. ثانياً، لأنها كانت مقلّدة، فقد قلدت الرجل بداهة في لهجته كما قلدته في معانيه، فالرجال أساتذتنا ومهذبونا ومكيفونا نتلقى دروسنا عليهم، ونقتبس المعرفة عن كتبهم، ونستعين بذكائهم لصقل ذكائنا وإنمائه، ومنهم تستقي كل فكر عظيم وكل عاطفة جليلة، وقد احتكروا كل أنواع المقدرة والتفوق، فلا غرو إذا ما فتحنا عيوننا وأذهاننا فرأينا جميع مناحي السلطة والسيطرة ممثلة فيهم".

ولعله لا يخفى على قارئ هذا الاقتباس ما يحتويه من مرارة وتهكم، ليس على عائشة التيمورية بالطبع، وإنما على الوضع الثقافي الحَرِج الذي تعيشه المرأة، وتضطر فيه إلى تنكّب سبل التقية والممالأة واستعارة لسان الرجل، والإقرار بسطوة قيمه وجبروتها ثقافياً وفنياً.

ولعل الحيرة لا تطول إزاء البحث عن سبب لهذا الموقف النسوي المشوب بالحذر والاحتراز، حين نوسع رؤيتنا للواقع الاجتماعي والثقافي، لندرك حجم المعوقات والسدود والحروب النفسية التي ووجهت بها المرأة وأدخلتها من ثمَّ في صراع مرير وبائس مع قوى كانت تمتلك العديد من الأسلحة لتدافع عن مواقعها بضراوة لافتة.

ولعله يصعب في مقالات مثل هذه الوقوف بإسهاب عند سير حيوات النسوة المبدعات في هذه المرحلة، وما عانين من صعوبات وضغوط اجتماعية ونفسية قادتهن إلى الانكفاء على الذات، والزهد في الحياة، وتجرّع مرارات الاضطهاد الأسري كالطلاق والهجر والعنوسة، انتهاءً بالميول الانتحارية واضطراب الأعصاب والجنون.

ويكفي للتدليل على موقف الثقافة الذكورية من إبداع المرأة ومدى ما مثلته هذه الثقافة من قمع وتهوين واستخفاف، إن لم يكن تسفيهاً واستهانةً بعقل المرأة وكينونتها الإنسانية وقدراتها، ما جاء على لسان عباس محمود العقاد في كتابه الشهير "هذه الشجرة". ويعود استشهادنا بالعقاد بالذات دون غيره لسببين: أحدهما أنه كان معاصراً ومعايشاً للمرحلة آنفة الذكر وشاهداً على أحداث ومجريات عصره، وثانيهما أنه يُعدّ رمزاً من رموز فكر وثقافة زمانه، وفيه تنعكس قيم العصر ومواصفاته.

ولا يقف العقاد من المرأة في كتابه عند موقف سلبها العقل والتمييز والاختيار والإرادة، ولكنه حين يلتفت إلى المرأة المبدعة على وجه الخصوص، فإنه يجردها من استقلالية الفكر والموهبة، ويربط تميّزها بتبعيتها للرجل واحتمائها بقدراته واستيحائها سمات الموهبة من قربه وظله.

ويتعدى الأمر - في استطراداته وأمثلته - إلى وصم النساء المبدعات بالنقص والاسترجال، وتجريدهن من سمات الأنوثة. ولعل هذا الأسلوب العدائي يشير من طرف خفي إلى ما يحمله الخطاب من تهديد مبطن بسوء المنقلب والكراهة لظاهرة المرأة المبدعة، التي - حسب رأي العقاد - تتحدى مواهبها القاصرة وتناقض أنوثتها!

back to top