من خلال عنوان {تحولات النوع في الرواية العربية بين مغرب ومشرق} يريد أحمد المديني جعل موضوع كتابه واضحاً منذ البداية، ومجال اشتغاله محدداً في غرضه، موسوماً بجغرافيته النصية، ومتعيناً أكثر من أي شيء آخر بقضية أساس تنظيم مباحثه، وتتمحور حولها كل نظراته النقدية وتحليلات نصوصه، أي قضية التحول، أو بالأحرى التحولات التي اعترت الرواية العربية، وامتدت في متنها الكبير، الذي يزداد انفساحاً وتشعباً وتنوعاً منذ عقدين من الزمن، وكثرة في الإنتاج والنشر إلى حد غطى على الأجناس الأدبية الأخرى، شعراً ونثراً، فصار له القدح المعلى عليها جميعاً.

Ad

يشير الكاتب إلى أنه، وحسب الاتفاق السائد لسائر الدارسين والنقاد، فعمر الرواية العربية لا يتعدى نشأتها بتاريخ صدور {زينب} (1914) لمحمد حسين هيكل، أي ليس أكثر من قرن، وهو قليل قياساً بتاريخ الرواية الغربية الرائدة، هذه التي ترجع جذورها إلى القرن السادس عشر (مع ثرفانتس القشتالي، ورابلي الفرنسي، تحديداً) وعرفت إشعاع الولادة الكبرى في القرن التاسع عشر (بلزاك، فلوبير، ستاندال...). عانت الرواية العربية، منذ ظهورها البعيد الآن نسبياً، أوجاع مخاض عسير، بوصفها جنساً أدبياً لم ينبثق من صميم المرجعية الأدبية العربية، رغم ما يحفل به تراث العرب من تدوينات مروية ونصوص حكائية، شأن أمم عدة. لكن إبداع الجنس وفق قواعده وخصائصه السُننية شأن آخر، فقد استعرناه من آداب غيرنا، واحتجنا ولا نزال إلى تعلم أصوله، وهو أكبر من الحكاية، ولا مجرد محاكاة الواقع، وليس سجلاً للخواطر ولا المساجلات من أي لون. الرواية لهي طريقة خاصة ومستقلة عن سائر الفنون لقول الحياة ورسم الإنسان ومصيره، والبوح بمحنه وأشجانه، على نسق حكائي وبناءً على خطة ورؤية تتفاوتان من كاتب وعصر إلى آخر.

يتابع المديني أن الرواية أيضاً ليست طريقة شكلية، كما انزلق الفهم إلى ذلك لدى البعض، بالأحرى الشكل أحد مظاهرها، به تتميز كفن محدد، من خلال مصائر وأزمات محددة. هي الشكل الذي أنجبته شروط موضوعية ليلبي حاجة ملحة لم تعد السجلات القولية السابقة عليها قابلة ولا قادرة على أدائها، شروط المدينة والمجتمع الصناعي الرأسمالي، وازدهار الحريات الفردية، عقيدية وفكرية سياسية، وما تخلفه هذه العناصر وامتداداتها مجتمعة من علاقات وبنيات وهياكل وإشكاليات، الرواية وحدها أبانت القدرة بالتدريج، وحسب مواهب الأفراد ومهاراتهم، أنها المؤهلة، من دون سائر فنون القول، على رصدها وتصوير عالمها فتكون بذلك، كما سميت بـ{ملحمة العصر الحديث} من دون أن تقترن معها بصلة، الذي نراه، وبعدما عاش حداثة ما بعد الحرب العالمية الثانية انتقل إلى ما بعد الحداثة، أي إلى مراجع السابق بأسئلة وعي ونقد جديدين، معرفية لا شك، لكن أسلوبية بأدق تعبير، والرواية تظل دائماً في قلب عملية التعبير عن الإنسان الحديث، وأبلغ معبر عن وجدانه ومعضلات حياته.

منشأ مغاير

يلفت المديني ألا خلاف أن منشأ الرواية العربية مغاير، على الأقل ليس طبق الأصل،  وقد قضت وقتاً من الارتباك والعثرات قبل أن تستقر على مجموعة النماذج والصياغات المتراوحة بين الموصوفة أو المتسمة بالرومانسية، الطبيعية، الواقعية العامة، فالواقعية النقدية، قبل أن تشرع ابتداء من العقد الثمانيني، خصوصاً في خوض تجارب بأكثر من طراز ومنزع. إلا أن الأهم قبل ذلك هو أن رواياتنا، كانت قد اتجهت إلى القالب والمنظور المناسبين بتساوق مع تبلور المجتمع المديني الحديث، وانتقال قوى الفعل والتأثير مع الأرياف والسلطات التقليدية إلى علاقات الإنتاج الجديدة في المدينة وتمظهر فئات اجتماعية عصب هذه البيئة وتمثل تناقضاتها وأوضاعها الجديدة. لذلك فالرواية تحمل بقدر ما تمثله قيماً مغايرة بالضرورة، ولا علاقة لهذا بأحكام القيمة، فمن هنا خلل فهمها عند من يعمدون لكتابتها بغية تسويغها لخطابات لم تتواجد لأجلها. والإجماع في منحى الإنجاز المناسب على نجيب محفوظ، منجزه الكبير، المتعدد، والمتنوع الاتجاهات في تعابيره ومضامينه مما لا يحتاج إلى إعادة تنويه وشرح، فهو مدرسة قائمة الذات، يكاد معها سواها أن يكون فرعاً وامتداداً للشجرة الثابتة، منذ خمسينيات القرن الماضي، وإلى أن رحل صاحبها تركها دغلاً كثيفاً حقاً.

يحاول المديني في كتابه، من خلال النصوص التي انكب على قراءتها وتحليلها، أن يكوِّن تأريخاً جزئياً لإسهامات جيل جديد، أو أكثر، في تطوير الرواية العربية، وتغيير أساليبها وحبكاتها، وصورة من محفل نقدي واسع لرصد المفاصل الكبرى حيث تتحدد معالم هذا التغيير، ويصبح بالإمكان استخلاص جملة نواظم بنائية، ومعايير خاصة بالشكل، وتصورات دلالية، وكلها مستقاة من مظانها النصية.

يتحدث المؤلف عن التحول بصيغة الجمع، ما يفيد أن ثمة مسلسلاً من العمليات الكتابية يعتري جسد مجموعة من النصوص السردية، ومعلوم أن التحول في أصله عملية كيماوية، تبرهن على انتقال الشيء، أو المادة، من وضع بفعل تدخل وتفاعل مؤثرات عدة، وتنتج في النهاية حالة مختلفة عما كان عليه الشيء في سابق عهده من دون أن تكون للأمر سلفاً علاقة بافتراض انتقال نحو الأحسن أو الأفضل، ما عدا أن الفعل محفوز في عمله برغبة تحقيق النتيجة. وكما أن العملية الكيماوية تتطلب الزمن الضروري للوصول إلى النتيجة، فهي في حالة الرواية أطول وأعقد، لأن العناصر وعملية التفاعل ليست مميزة دائماً، ولا تخضع بانتظام لشروط موضوعية، فالذات حاضرة فيها بدرجة قصوى، فنحن هنا في مجال الفن لا العلم. بهذا المعنى فإن ما عرفته الرواية العربية من تحولات اقتضى زمناً وهو ما تشهد به الأعمال أولاً، وثانياً تؤيده استمرارية الفعل التي هي في خط تصاعدي، وتتخذ أكثر من شكل، وتبرز في غير صعيد. في هذا الصدد، من المناسب القول بأن التحول إذا كان يظهر منجزاً فهو يمر بمراحل، منها التجريبي، وهذا منه كثير في الرواية والقصة القصيرة المجددتين في أدبنا العربي، منذ سبعينيات القرن الماضي، وثمانينياته خصوصاً. إلا أن التجريبي رغم جرأته الظاهرة، تنطعه، وجهره بالقطيعة، لهو لحظة انتقالية لا قارة، فمجترحُه كالكيميائي، سعيه إلى صوغ وضع غير مسبوق بناء على تفاعل عناصر كلية. لذلك أولى المديني الاهتمام بالدرجة الأولى في الكتاب لنصوص ذات تمثيلية معقولة اكتمل فيها نسق التحول أو كاد، وأحياناً على أهبة اندراج واع في خطه، وإلا فكل رواية مما يكتب اليوم من هذا القبيل، تسمع أصحابها منددين، منادين برفض العالم وإدانته قبل أن يعرفوه وجهاً وقفا.