شعبوية بلا شعوب... ومشكلات التعددية السياسية!

نشر في 23-04-2013
آخر تحديث 23-04-2013 | 00:01
لا يمكننا أن نفهم الشعبوية على مستوى السياسات؛ لأنها في واقع الأمر وسيلة متفردة في تخيل السياسة. فهي تحرص على تأليب الأبرياء المجتهدين في عملهم دوماً ضد النخبة الفاسدة (التي لا يعمل أفرادها حقاً إلا لتعزيز مصالحهم الخاصة) وضد أولئك الذين يعيشون عند قاع المجتمع (الذين أيضاً لا يعملون ويعيشون عالة على الآخرين).
 بروجيكت سنديكيت كان الفوز الذي حققه نيكولاس مادورو بهامش ضيق في انتخابات فنزويلا الرئاسية سبباً في إثارة سؤال بالغ الأهمية (بعيداً عن تساؤل المعارضة حول ما إذا كان مادورو هو الفائز حقا): هل تزدهر الشعبوية في غياب زعيم شعبي يتمتع بكاريزما حقيقية، أم أن الحركات مثل التشافيزية محكوم عليها بالزوال بمجرد أن تفقد أشباه الآلهة الذين يتزعمونها؟

يرى العديد من المراقبين أن الشعبوية لا يمكن تصورها في غياب رابطة قوية مباشرة بين زعيم مناهض للمؤسسة ومواطنين يشعرون بالإهمال من جانب الأحزاب السياسية المسيطرة، ومع ذلك فإن الدور الذي تلعبه الزعامة في الشعبوية مغالى في تقدير حجمه إلى حد بعيد. ونظراً لأهمية الشعبوية بوصفها ظاهرة سياسية، فإن هذا الرأي، جنباً إلى جنب مع رأيين آخرين- أن الشعبوية على نحو ما هي دعوة للديمقراطية المباشرة، وأن الشعبويين لا يملكون سوى الاحتجاج، ولكنهم لا يحكمون أبدا- يحتاج إلى من يرد عليه.

إن الشعبوية، على النقيض من الليبرالية أو الماركسية على سبيل المثال، لا تشكل هيئة متماسكة من الأفكار السياسية المتميزة، ولكن لا يجوز لنا أيضاً تعريفها ببساطة باعتبارها أي حركة سياسية تخاطب مشاعر الجماهير من خلال الترويج لمقترحات سياسية تبسيطية، فرغم ميل الشعبويين بشكل خاص إلى تأييد حلول مبسطة، فلا أحد يستطيع أن يزعم أنهم يحتكرون هذا التكتيك. وعلاوة على ذلك فإن الطعن في ذكاء وجدية الشعبويين لا يصب إلا في مصلحتهم: انظروا كيف يصر المتغطرسون من أهل النخب الراسخة على استبعاد الحس السليم لدى عامة الشعب.

ولا يمكننا أن نفهم الشعبوية على مستوى السياسات؛ لأنها في واقع الأمر وسيلة متفردة في تخيل السياسة. فهي تحرص على تأليب الأبرياء المجتهدين في عملهم دوماً ضد النخبة الفاسدة (التي لا يعمل أفرادها حقاً إلا لتعزيز مصالحهم الخاصة) وضد أولئك الذين يعيشون عند قاع المجتمع (الذين أيضاً لا يعملون ويعيشون عالة على الآخرين).

ففي مخيلة الشعبوي، لا يُعَد من يعيشون على قمة المجتمع أو عند قاعه جزءاً منه حقا: فهم مدعومون إما بشكل مباشر أو غير مباشر من قِبَل قوى خارجية (مثل النخب الليبرالية المؤيدة لأوروبا في وسط وشرق أوروبا)؛ أو هم بشكل أكثر وضوحاً مهاجرون أو أقليات، مثل الغجر. وفي المخيلة السياسية للشعبويين، يهتم أهل النخب عادة، وعلى نحو غير متناسب، بأولئك الذين يشبهونهم، أي الذين لا ينتمون حقاً إلى المجتمع. وبشكل منتظم، توجه الاتهامات إلى أهل النخبة في أوروبا بأنهم يغدقون بالفوائد والمزايا على الأقليات العرقية باسم حماية حقوقها. وكثيراً ما يتخيل الشعبويون من المنتمين إلى حزب الشاي في الولايات المتحدة وجود تحالف غير مقدس بين النخبة اليسارية الليبرالية التي ينتمي أهلها إلى الساحلين الشرقي والغربي للولايات المتحدة والطبقة الدنيا من الأميركيين من أصل إفريقي (وهو التحالف الذي يرونه متجسداً في الرئيس باراك أوباما).

إن الزعيم القادر على تمثيل هذه الصورة الأخلاقية- ولا أقول السياسية- البحتة يساعد في تزويد الناخبين بنقطة تركيز، ولكن هذا ليس بالعامل الحاسم، فقد كان من المهم أن يطمئن تشافيز الجماهير إلى أن كيانه «يتألف من قليل من كل منهم». بيد أنه قد يكون أي شخص آخر، أو مجموعة أخرى؛ أو قد يكون لا أحد على وجه التحديد (فمن الذي يقود حزب الشاي حقا؟).

إن الناخبين الذين يدعمون الحركات الشعبوية يفعلون هذا لأنهم يعتقدون أن النخب الحالية عاجزة حقاً عن تمثيلهم، وهم لا يناهضون الديمقراطية التمثيلية بهذا المفهوم: بل إنهم يريدون ممثلين مختلفين فحسب؛ يريدون أشخاصاً يعتبرونهم أنقياء أخلاقيا.

وعلى هذا فإن الدعوات التي تطالب بالمزيد من المشاركة الشعبية لا تشكل ضرورة أساسية بالنسبة إلى الشعبوية؛ بل إنها مجرد عَرَض من أعراض استبعاد متخيل (أو قد يكون حقيقة واقعة، وخاصة في أميركا اللاتينية). غير أن صرخات المنادين بالدمج السياسي تختلف عن الأصوات التي تطالب بالديمقراطية المباشرة، فحيثما كانت الديمقراطية المباشرة جزءاً حقيقياً من السياسة الطبيعية- كما هي الحال في سويسرا على سبيل المثال- كان أداء الأحزاب الشعبوية أفضل، وليس أسوأ، مقارنة بأماكن أخرى.

ولا يقل عن هذا تضليلاً أن نتصور أن الساسة الشعبويين، بمجرد صعودهم إلى السلطة، لن يتمكنوا من الحكم بفعالية، لأنهم خرجوا إلينا من أحزاب احتجاجية تحددت أجنداتها بالكامل وفقاً للطرف الذي يعارضونه، فالحق أن ما يميز الشعبويين في السلطة هو أنهم لا يبالون إلا بأنصارهم (أما بقية السكان فإنهم لا يستحقون أي شيء على الإطلاق)، ولا يولون أي اعتبار للضوابط والتوازنات.

ومن منظور شعبوي، فإن هذا منطقي تماما: فما الذي قد يحملهم على تقبل أي ضوابط تفرض على سلطتهم ما داموا يمثلون الإرادة الأصيلة للشعب؟ إن الشعبويين قادرون على التعايش مع الديمقراطية التمثيلية؛ أما ما لا يمكنهم تحمله أبداً فهو التعددية السياسية ومفهوم المعارضة المشروعة.

وكان هذا الميل إلى تشويه صورة المعارضين، وليس سياسات بعينها تميل إلى الفقراء، هو الذي جعل من تشافيز زعيماً شعبويا. وفي فنلندا، كمثال آخر، كان ادعاء التمثيل الأصيل المتفرد، وليس انتقاد الاتحاد الأوروبي، هو الذي جعل من حزب «الفنلنديون الأصليون» (الاسم في حد ذاته ينبئنا بالكثير) حزباً شعبويا، وعلى نحو مماثل، لم تكن محاولة الشعبوي الإيطالي بيبي جريلو لتمكين المواطنين العاديين مدعاة للقلق؛ غير أن ادعاءه بأن حركة الخمس نجوم التي يتزعمها لا تستحق أقل من 100% من المقاعد في البرلمان، لأن كل المنافسين الآخرين فاسدون وبلا أخلاق، تدعو إلى القلق العميق بكل تأكيد.

الواقع أن هذه السمة التي تميز الشعبوية- فكرة أن الناس لا يريدون غير شيء واحد فقط، وأن الممثلين الحقيقيين فقط هم القادرون على منحهم هذا الشيء- هي التي تفسر ذلك التماثل العجيب (الذي يُستحضَر عادة ولكنه نادراً ما يُشرَح بالتفصيل) بين الشعبوية وحكم التكنوقراط. فتماماً كما يفترض التكنوقراط وجود حل واحد فحسب لكل تحدٍ يواجههم في التعامل مع السياسات- وبالتالي يصبح الحوار السياسي بلا ضرورة- يرى الشعبويون أن كل الناس لديهم إرادة واحدة- وواحدة فقط- غير فاسدة. أما الديمقراطية الليبرالية فإنها تفترض العكس تماما: فهناك مساحة تستوعب دوماً وجهات نظر مختلفة، وبدائل سياسية متعددة.

* جان فيرنر مولر ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون، ومؤلف كتاب "مبارزة الديمقراطية: الأفكار السياسية في أوروبا القرن العشرين".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top