أثار حكم محكمة التمييز الخاص بما سُمي إعلاميا "شبكة التجسس الإيرانية" غضباً شعبياً تجاه إيران، وهو غضب مستحق، ولكن وكي نكون واقعيين فإنه من المستبعد جداً ألا يكون لإيران وغيرها من الدول الأجنبية محاولات دؤوبة لممارسة أنشطة ذات طبيعة استخباراتية في دول المنطقة قاطبة، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار ظروف الحرب الباردة التي مضى عليها سنوات طويلة بين إيران وحلفائها، خاصة نظام الاستبداد في سورية من طرف وأميركا وحلفاءها في الخليج من طرف آخر، ناهيكم عن التهديدات الإسرائيلية المستمرة ضد إيران والصراع الدولي على مناطق النفوذ في الشرق الأوسط بين مجموعة "البريكس" من جهة والولايات المتحدة وأوروبا الغربية من جهة أخرى.

Ad

من هذا المنطلق ومع تحميل إيران المسؤولية السياسية والأخلاقية عما حدث، فإن مسؤولية منع أنشطة التجسس الأجنبية سواء الإيرانية أو غيرها من التغلغل في الداخل، واكتشافها في الوقت المناسب تقع على الحكومة بالدرجة الأولى، حيث إنه من أولى أولوياتها حماية الأمن بجانبيه الداخلي والخارجي.

وبالطبع فإن التصريحات الاستفزازية لبعض عناصر النظام الثيوقراطي المتخلف في إيران من ناحية، والسياسة الخارجية الإيرانية خاصة في العراق وسورية من ناحية ثانية، تثير المخاوف المشروعة ولا تساهم في ترسيخ التعايش السلمي بين شعوب المنطقة، ولكن من الخطأ المبالغة بالخطر الإيراني وتضخيمه خصوصاً في ظل المشاكل الداخلية السياسية والاقتصادية الصعبة التي يعانيها النظام، والترتيبات الحالية في المنطقة التي تنتشر فيها القواعد العسكرية الأميركية والغربية على طول ساحل الخليج وعرضه.

 خلال هذا الأسبوع، على سبيل المثال، ستقود أميركا، كما ذكرت وسائل الإعلام، أكبر مناورات يشهدها الخليج، تشارك فيها نحو 40 دولة من حلفاء الولايات المتحدة الأميركية.

 المبالغة بالخطر الإيراني وتضخيمه هذه الأيام  يذكراننا بالمبالغة بقوة الجيش العراقي أيام الطاغية المقبور صدام وزعم امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، حيث اتضح فيما بعد عدم صحة ذلك؛ لهذا فقد يكون الهدف من تضخيم خطر إيران هو زيادة سباق التسلح في المنطقة للمساهمة في حل أزمة مصانع الأسلحة الأميركية والغربية التي تعاني أشد المعاناة من الأزمة المالية العالمية، أو قد يكون الهدف هو إفشال ثورات الربيع العربي والحيلولة دون نجاح حركات الإصلاح والتغيير الديمقراطي في الدول العربية من خلال إثارة الفتنة الطائفية لإشغال شعوب المنطقة عن قضاياهم المشتركة، واستنزاف جهودهم في قضايا مستهلكة لخلق "فوضى خلاقة" كانت ضمن أولويات السياسة الخارجية الأميركية، بحيث يترتب عليها عملية تفتيت لدول المنطقة وتحويلها إلى دويلات طائفية متحاربة من السهولة بمكان التحكم بها وتوجيهها، وهو الأمر الذي اتضحت بعض مؤشراته الأولية فيما حصل ويحصل في العراق، وفي سورية حاليا.

 على أي حال فاليقظة والحذر واجبان، وتماسك الجبهة الداخلية أمر في غاية الأهمية لمواجهة الأخطار الخارجية، ولكن تفسير ما يجري حالياً في المنطقة من صراع دولي بين أميركا وحلفائها من ناحية، ومجموعة "البريكس" وحلفائهم من الناحية الأخرى، على أنه صراع طائفي بين "السنّة والشيعة" أو صراع عرقي بين "العرب والفرس" هو تبسيط مُخلّ وسطحي ومُضلّل لطبيعة الصراع، فالأمور أعقد من ذلك بكثير جدا، والمصالح الاقتصادية سواء المحلية أو الدولية لا تعرف الطوائف والمذاهب أو الأصول والأعراق!