جميل حتمل
ماذا لو عاش الكاتب السوري جميل حتمل، حتى أيامنا هذه؟ ماذا لو بقي حياً، جسدياً في هذه البرهة المظلمة، وهو يرى وطنه السوري ينام وتستيقظ مدنه على القصف المتواصل وهدير الطائرات والقنابل وبراميل النيران، وطن استبيح فيه المواطن السوري في كل شيء، وهو يتعثر بأشلائه ويدفن قتلاه وينظر بعين تحجرت فيها الدموع، إلى مهجريه الموزعين على جهات العالم الأربع، جميل حتمل الذي لم يحمله قلبه الضعيف، قبل الربيع العربي بسنوات، فخذله ومات في المنفى الباريسي البارد والموحش، استحضر الآن لقائي الأول والوحيد به، في مدينة الرباط المغربية، كان هو في زيارة من باريس وكنت أنا قادماً من نيويورك. هذا إذن أحد أبناء جيلي، سُرق عمره في أقبية السجون والمرض والمنافي، لم يكن جميل حتمل يريد أن يغير العالم، كان يحلم بأن يكون للإنسان العربي في وطنه حياة كريمة ولائقة به، ولأن هذا لم يتحقق، كتب شهادته ومضى لكنه مضى باكراً، بعد أن هدّه التعب.في مستشفى «كوشان» في باريس كتب تلك الامثولات القصصية، بحب بريء وجارف، كتب بحساسية من يحب امرأة أو وطناً، أو صديقاً، لهذا لم أشعر معه عندما التقيته بغربة أو مسافة، كان اللقاء أشبه بلقاء أصدقاء يتجدد بعد مضي زمن بعيد. غير أن جميل حتمل أثقلته التجربة مبكراً، هو الذي لم يتنازل عن مواقفه وما يؤمن به.
كان صلباً، لكن تلك الصلابة كانت تخفي خلفها خيطاً رقيقاً من الحزن، من الوجع، بسبب صفاقة العالم، بسبب الجدار الذي اصطدم به هو وجيله، بسبب الخيبات الكبيرة، إن كان على المستوى الشخصي أو العام، بسبب أحلام أجهضت في مهدها، كانت طبيعة المرحلة تقول هذا، طبيعة القسوة والاستبداد و»تفريغ الكائن» إذا استعرنا عنوان رواية خليل النعيمي، انسداد الأفق على نحو مدمر، كل هذا يُعبّر عنه جميل حتمل، في مجموعاته القصصية الخمس، ابتداء من «الطفلة ذات القبعة البيضاء، انفعالات، حين لا بلاد قصص المرض، قصص الجنون حتى آخر أعماله، سأقول لهم». كان جميل يحاول أن يفتح كوة صغيرة ينفذ منها الضوء، ضوء دافئ وسط برودة العماء والعتمة، حلم واحد صغير لائق بالإنسان، لكن «شرق المتوسط» الذي نعرفه، شرق الاستبداد هذا لا يترك حيزاً لهذه الأحلام، يُسجن جميل حتمل، -كما يُسجن آخرون- يخرج من السجن مريضاً، معطوب القلب، فيستقبله صقيع المنافي زمناً، ثم يرحل، يرحل إلى الأبد عن هذا العالم غير المأسوف عليه، وعلى وجهه ابتسامة حزينة، لقد وصل به الأمر إلى حد الرجاء، الرجاء من الخالق أن يعيده إلى أرضه حتى ولو كان جثة، ففي إحدى قصصه يكتب: «تعبت وأريد كل مساءٍ أن أهمس لابني بمساء الخير، تعبت من الصقيع من سياط الوحشة، من برودة الرغبات، تعبتُ فأعدني يا الله ولو جثة أعدني».هذا الإحساس الحاد بالاغتراب والخيبة ذو منشأ داخلي أكثر مما هو من طبيعة الجغرافيا، فحتى في قصصه المبكرة، التي تعود إلى أواخر السبعينيات والثمانينيات، يظهر إحساس الخيبة هذا وان على نحو أقل.