مرة أخرى، تقف أوروبا على حافة الهاوية، ولكن الاتفاق المبدئي بين قبرص ولجنة الترويكا (المفوضية الأوروبية، وصندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي) ربما يعني أن أوروبا نجحت في تجنب الأسوأ، فالآن ستفرض خسائر كبيرة على كبار المودعين في البنوك القبرصية، وسيتم إغلاق ثاني أكبر بنك في البلاد. ولكن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن قبرص في المستقبل لا تمتلك الوسيلة اللازمة لتحقيق التعافي فحسب، بل أيضاً لإنهاء الانقسام الذي طال أمده بينها وبين الدويلة التي تدعمها تركيا في شمال الجزيرة.
إن قبرص، بطبيعة الحال، ليست سوى آخر دولة تضربها الأزمة الاقتصادية التي تجتاح دول منطقة البحر الأبيض المتوسط. لأعوام طويلة، شهدت قبرص تضخم فقاعة مصرفية هائلة، حيث كانت أصول القطاع تقدر بنحو سبعة أمثال الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، مع تدفق الأموال الأجنبية إلى الملاذ الضريبي داخل بيئة منطقة اليورو الآمنة.وقد اشترك في صياغة تصميم عملية الإنقاذ بواسطة الضغوط الداخلي التي يواجهها زعماء منطقة اليورو والطبيعة الاستثنائية للفقاعة المصرفية القبرصية: يشك العديد من الزعماء الأوروبيين في أن الجزيرة ربما تحولت إلى مركز لغسل الأموال للأفراد والكيانات من روسيا، والتي ضخت ما يقدر بنحو 68 مليار يورو إلى بنوك البلاد. وبصرف النظر عن تفاصيل الصفقة النهائية، فإن الخطر هنا يكمن في أن شبح إنقاذ روسيا لقبرص في عام 2011 قد يثير آثاراً جانبية خطيرة في أنحاء جنوب أوروبا المختلفة، سواء بالنسبة إلى تكاليف الاقتراض أو صغار المدخرين.ولكن من الأهمية بمكان رغم هذا ألا نتغافل عن بعض الأصول العظيمة القيمة التي تمتلكها قبرص- الأصول التي قد تعني الخلاص الاقتصادي للبلاد.في عام 2011، اكتشفت شركة الطاقة الأميركية "نوبل" نحو 200 مليار متر مكعب من الغاز في منطقة شرق المتوسط- قدرت قيمة هذه الكتلة، المعروفة باسم حقل غاز أفروديت، بنحو 80 مليار يورو. ولقد بدأت أعمال الاستخراج بالفعل، ومن المتوقع أن يبدأ الإنتاج في عام 2018. ويقول الخبراء إن الاحتياطيات قد توفر احتياجات قبرص من الطاقة لمئة عام- وتعمل كمصدر بديل لأوروبا المتعطشة للطاقة، وفي البحث عن حزمة إنقاذ مقبولة، اعتبرت عائدات المستقبل من هذه الأصول عند نقطة ما ضمانات محتملة.ووفقاً لتقديرات المسح الجيولوجي في الولايات المتحدة فإن حوض بلاد الشام، الذي يمتد عبر قاع البحر قبالة إسرائيل وقبرص ولبنان، يحتوي على نحو 3.45 تريليونات متر مكعب من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج ونحو 1.7 مليار برميل من النفط. ولكن نظراً لموقعها الجغرافي فإن هذه الاحتياطيات الهائلة لا يمكن كشفها واستخراجها وتصديرها إلا على أساس من التعاون بين الدول.وكما هي الحال مع كل حقول النفط والغاز البحرية، فإن حقوق استغلال المياه والثروات الكامنة تحتها حرجة. وفي ضوء هذه الثروات، فإن المنافسة قد تبدو مربحة لأول وهلة، ولكن التعاون كفيل بتعظيم حجم الكعكة.وعلاوة على ذلك فإن الاتفاقيات الاقتصادية من الممكن أن تعمل على تشجيع وتوثيق التعاون في مجالات أخرى، ولقد أدت المسائل المرتبطة بالطاقة بالفعل إلى دفء غير مسبوق في العلاقات بين دول مثل إسرائيل وقبرص في الأعوام الأخيرة، مع التوقيع في عام 2010 على اتفاق يقضي بتعيين حدود المناطق الاقتصادية الخاصة بكل من هذه البلدان رسمياً. وليس من المستبعد أن تمتد هذه الأنماط التعاونية لكي تشمل دولاً مجاورة أخرى حول بلاد الشام.والنبأ الطيب هنا هو أن الرئيس القبرصي المنتخب حديثاً، نيكوس أناستاسياديس، قد يكون منفتحاً على مثل هذه الأجندة. وسيتوقف الكثير بطبيعة الحال على أدائه السياسي في خضم الاضطرابات الحالية التي تحيط بحزمة الإنقاذ. فاز أناستاسياديس، عضو حزب التجمع الديمقراطي المؤيد لأوروبا، بنحو 57% من الأصوات الشعبية استناداً إلى برنامج شدد على التعافي الاقتصادي، وسيكون هذا بطبيعة الحال على رأس أولوياته. ورغم هذا، فإن النظرة الحذرة إلى ما هو أبعد من الاضطرابات الحالية- وإلى تاريخ أناستاسياديس- تقدم لنا أساساً ثابتاً للتفاؤل.في عام 2004، أيد أناستاسياديس وحزبه خطة أنان، التي وضعها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان ودعمها الاتحاد الأوروبي. والواقع أن اقتراح إعادة توحيد شطري الجزيرة الذي تقدم به أنان كان بمنزلة المخطط الأولي لـ"جمهورية قبرص المتحدة" التي تتألف من اتحاد فيدرالي بين دولتين.وعندما طرحت خطة أنان للاستفتاء الشعبي، أيدها نحو ثلثي القبارصة الأتراك في شمال الجزيرة والذين يبلغ عددهم 250 ألف نسمة، ولكن 76% من القبارصة اليونانيين الذين يبلغ عددهم 860 ألف نسمة في الجنوب رفضوا الخطة. ولكن ليس من المستبعد أن يقدم انتصار أناستاسياديس الحافز لإعادة فتح الحوار بين شطري الجزيرة الشمالي والجنوبي- بمجرد مرور الأزمة الحالية.وتعد مثل هذه النتيجة تقدماً كبيراً في قبرص والمنطقة. ذلك أن حل انقسام الجزيرة الذي طال أمده من شأنه أن ييسر التحاق قبرص بعضوية الاتحاد الأوروبي، وستكون التأثيرات الاقتصادية متعددة، وممتدة عبر منطقة شرق المتوسط بالكامل.على سبيل المثال، ستتمكن تركيا واليونان من خفض إنفاقهما العسكري (ولو بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال، نظراً للبيئة الجغرافية المختلفة لكل من الدولتين). فاليونان هي ثاني أكبر دولة إنفاقاً على الدفاع نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي؛ ومن الواضح في البيئة الاقتصادية اليوم أن الادخار هنا قد يشكل تخفيفاً مرحباً به إلى حد كبير من الضغوط على الميزانية. وكانت الدعوة التي أطلقها الزعيم الكردي المتمرد عبدالله أوجلان أخيراً إلى وقف إطلاق النار بمنزلة علامة مشجعة تدلل على أن تركيا أيضاً ستستفيد من مكاسب السلام.كما كانت الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء اليوناني أنطونيوس ساماراس إلى اسطنبول في وقت سابق من هذا الشهر علامة مشجعة على أن التوترات بين اليونان وتركيا بدأت تهدأ بالفعل. ومن المؤكد أن تعميق التعاون في منطقة شرق المتوسط من شأنه أن يوفر فرصاً اقتصادية لا حصر لها، وأبرزها الفرص الكثيرة المرتبطة بتنمية احتياطيات الغاز البحرية عبر الحدود.لقد تحمل أناستاسياديس العاصفة الاقتصادية الكاملة أثناء أول شهر له في منصبه، ومن المؤكد أن الأزمة الحالية ستستمر في الهيمنة على جدول أعماله، ولكن بعيداً عن عاصفة اليوم، فهناك ضوء في الأفق. والآن يتعين على قبرص والدول المجاورة لها أن تتعاون في الوصول إلى الضياء.* خافيير سولانا | Javier Solana ، ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للسياسة الخارجية والأمن سابقا، وأمين عام منظمة حلف شمال الأطلسي سابقا، ووزير خارجية إسبانيا الأسبق. ويشغل حالياً منصب رئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية، وهو زميل بارز لدى معهد بروكينغز.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
نموذج عمل جديد من أجل قبرص
29-03-2013