توصلت قبرص والاتحاد الأوروبي إلى صفقة لإنقاذ هذا الاقتصاد الصغير المضطرب في منطقة اليورو، لا شك أن هذه أخبار جيدة بالنسبة إلى قبرص (حتى لو اتضح لاحقاً أنها صفقة فاشلة، إلا أنها تضع حداً لحالة الضياع) والاتحاد الأوروبي. لكن حل معضلة عملية إنقاذ فبرص برمتها، وفق الشروط المحددة، تشكل خبراً سيئاً بالنسبة إلى روسيا: فسيُعتبر ذلك إشارة إلى إخفاق سعي موسكو إلى إعادة تأكيد جزء من سيطرتها السابقة في أوروبا ولعب دور البديل عن الاتحاد الأوروبي.

Ad

تملك روسيا بعض المصالح التي قد تهددها عملية إنقاذ الاتحاد الأوروبي لقبرص، ولعل أول هذه المصالح وأهمها احتمال أن يخسر عدد كبير من المواطنين الروس مدخرات بقيمة مليارات الدولارات في القطاع المصرفي القبرصي، الذي يُعتبر جنة منخفضة الضريبة بالنسبة إلى الأثرياء الروس. تذكروا أن هؤلاء الأثرياء ينعمون بنفوذ سياسي كبير داخل روسيا. ثانياً، تشكل قبرص دولة تابعة سياسياً لموسكو وحليفاً مهماً لها في بعض القضايا مثل إرسال السلاح إلى سورية. أما المصلحة الثالثة فرمزية ولا دخل لها بقبرص بحد ذاتها، بل بمكانة روسيا في أوروبا.

فقد تحول عقد صفقة الإنقاذ إلى نوع من التنافس بين موسكو والاتحاد الأوروبي، فأي من داعمَي موسكو الأكبرين قد يقدم لها صفقة أفضل؟

وبينما حاول المشرعون القبارصة الأسبوع الماضي عرقلة عملية الإنقاذ التي قدمها الاتحاد الأوروبي، سعوا أيضاً للتفاوض مع روسيا بشأن الحصول على قرض وخط ائتماني، فقد اعتقدوا أن حاجتهم إلى الاتحاد الأوروبي ستتراجع وآلام عملية الإنقاذ ستخف، كلما حصلوا على تقدمات أكبر من روسيا. أرادت قبرص بشدة التوصل إلى اتفاق مع موسكو، حتى إنها عرضت عليها حصصاً في احتياطياتها من الغاز الطبيعي المكتشفة حديثاً.

بدت هذه فرصة ملائمة لروسيا لتجعل هذه الدولة التابعة لها أكثر وفاء ولتقدم نفسها كبديل عن الاتحاد الأوروبي، ما يشكل جزءاً من جهود ترجع إلى عقود وتهدف إلى إعادة أوروبا الشرقية إلى فلك موسكو، ما يحد نسبياً من سلطة الغرب. فخلال المفاوضات، انتقد رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميديفيديف علانية الاتحاد الأوروبي، ناعتاً إياه «بفيل في متجر للخزف».

إذا طُبّقت الصفقة التي جرى التوصل إليها، فلن تكون النتيجة مواتية لروسيا. قد انتهت محادثات الأسبوع الماضي بين قبرص وروسيا بدون التوصل إلى قرار حاسم، خصوصاً أن المسؤولين الروس أخبروا نظراءهم القبارصة بأنهم غير مستعدين للموافقة على أي تفصيل. ولكن بدا جلياً أن موسكو تفاوض وفق طريقتها الخاصة. كتب فليكس سولومن من وكالة رويترز: «تتبنى روسيا موقفاً متعالياً في تعاملها مع قبرص، لكن هذه الخطوة تبدو لي لعبة عدائية عالية المخاطر، تخيلوا ميديفيديف كمدير صندوق تحوط جيو-سياسي أو مراهن، وهكذا تبدو لكم الصورة منطقية».

بكلمات أخرى، كانت موسكو تحاول الضغط على قبرص للقبول بصفقة تكون مواتية لها قدر الإمكان، كذلك ذكر بول ميرفي، الذي اقتبس سالومن كلماته، أن هذا أرغم قبرص على القبول بسيناريو «الكل أو لا شيء». أضاف ميرفي: «أمام قبرص اليوم خيار مزدوج: التحول إلى دولة تابعة للشؤون المالية للمافيات الروسية أو الاتجاه بالكامل نحو أوروبا، إقفال الجزء الأكبر من قطاعها المصرفي المشتبه فيه، وإعادة بناء اقتصادها على أسس أكثر استدامة».

لربما اعتقدت موسكو أن هذا سيدفع بقبرص نحو الخيار الروسي، ولكن كان له تأثير معاكس على ما يبدو.

في الصفقة التي عُقدت، يبدو أن المودعين، الذين تتجاوز حساباتهم 130 ألف دولار في المصارف القبرصية (كثيرون منهم أثرياء روس يحاولون حماية أموالهم في الجنة القبرصية) سيخسرون مبالغ أكبر مما تبين خلال أزمة الأسبوع الماضي. حتى إن بعضهم سيفقد كل أمواله، وهكذا ستصبح قبرص أكثر انصياعاً للاتحاد الأوروبي، وبالتالي أقل انصياعاً لروسيا التي ستتراجع مصالحها في هذا البلد في مطلق الأحوال.

ولا شك أن روسيا لا توشك أن تخسر دولة متعاونة معها، فالروابط السياسية والثقافية بين البلدين أعمق من أن تنقطع بهذه السرعة. إلا أن موسكو لا تسدي بالتأكيد نفسها أي خدمة، وكما كتب سولومن، «إذا كانت هذه نهاية اللعبة، فتشكل خسارة غير واضحة لروسيا ومكسباً للاتحاد الأوروبي».

يبدو أن مقاربة «الكل أو لا شيء» العدائية الروسية قد دفعت بقبرص نحو أوروبا. وقد تبدو هذه الحادثة مألوفة لمراقبي الحرب الباردة، حين أدت الضوابط المتشددة في التعامل مع أوروبا الشرقية، بما فيها عقيدة بريجنيف، إلى زرع بذور الاضطراب السياسي، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وتوسع حلف شمال الأطلسي شرقاً حتى رومانيا.

لا شك أن هذه حالة أكثر تعقيداً. إلا أنها تكشف بعض عادات السياسة الخارجية الروسية. عندما قطعت روسيا تصدير الغاز إلى أوكرانيا عام 2009 (وبالتالي عن جزء كبير من جنوب شرق أوروبا يستورد الطاقة الروسية عبر أوكرانيا) في محاولة لحمل هذا البلد على تسديد ديونه المتراكمة لروسيا، تكبدت هذه الأخيرة خسائر في صادراتها وصلت إلى مليار دولار، فضلاً عن أنها ألحقت على الأرجح الضرر بسمعة البلد كمصدر آمن للطاقة.

كتب دان دريزنر من Foreign Policy رداً على صفقة قبرص: «أين روسيا ودورها كبديل عن الاتحاد الأوروبي؟ فلم تستطع موسكو تغيير موقف الاتحاد الأوروبي الضعيف، على ما يبدو، من عضو هذا الاتحاد الذي يتمتع بالروابط الأشد مع روسيا». لا شك أن روسيا كانت تحمل كل الأوراق الرابحة لتحقق الفوز في مسألة قبرص، لتضمن صفقة جيدة لدائنيها، ولتجذب هذه الدولة نحوها. ولكن يبدو أنها لم تعِ أن اللعبة التي تشارك فيها قد تبدّلت. فقد انتهت الحرب الباردة، ولا تستطيع روسيا أن تشق طريقها عنوة وأن تعود بالقوة إلى أوروبا.

وعلى نفس الوتيرة، يبدو أن هذا الدرس تتعلمه روسيا أيضاً في الشرق الأوسط، حيث تستطيع أن ترسل ما تشاء من الأسلحة إلى حليفها الأمين الرئيس السوري بشار الأسد، لكنها لن تتمكن من إلغاء الربيع العربي.

Max Fisher