«سياسة فرنسا الثقافية»... لبنان نموذجاً
صدر حديثاً عن «منتدى المعارف» كتاب «سياسة فرنسا الثقافية، دراسة حالة لبنان 1959 - 1989» للباحث العراقي وليد كاصد الزيدي. يتناول الكتاب سياسة فرنسا الثقافية ومدى تأثيرها في لبنان الذي اختير أنموذجاً للدراسة.
تكمن أهمية اختيار موضوع سياسة فرنسا الثقافية للبحث في عدم الاهتمام به سابقاً، والتطرق إليه من الباحثين والدارسين بشكل محدود. أما وليد كاصد الزيدي فيتوخى في دراسته «سياسة فرنسا الثقافية، دراسة حالة لبنان 1959 - 1989» سد الفراغ في هذا الجانب في المكتبة العراقية خصوصاً والعربية عموماً. ولعل غالبية الكتابات في هذا الموضوع، سواء باللغة العربية أو الفرنسية، جاءت من كتّاب ومفكرين وباحثين فرنكوفونيين عكسوا وجهة النظر الفرنسية، أو من آخرين قدموا وجهة نظر مناهضة لسياسات فرنسا الثقافية بعيداً عن التجرد والموضوعية والعلمية التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث العلمي. لذا دأب الزيدي عند دراسة هذا الموضوع على التزام الحيادية والتحليل العلمي والموضوعي والمجرد من الميول الشخصية.يكتسب هذا الموضوع أهمية كبيرة كونه يسلط الضوء على جانب يحظى باهتمام كبير في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، ذلك أن مفهوم التعاون الثقافي مع فرنسا ما انفك يثير جدلاً محتدماً بين فريقين: أحدهما منتقد ومعارض، وآخر مؤيد ومناصر. فطبيعة سياسة العلاقات الثقافية الفرنسية تحمل إشكالاً في طياته مفاهيم متعددة، وهو محل خلاف بين طائفتين، ترى الأولى فيه صيغة استعمارية جديدة، لا سيما في بلدان المغرب العربي ولبنان التي عانت الاستعمار الفرنسي أكثر من غيرها. في حين ترى الطائفة الأخرى بأنه يمثل إشعاعاً ثقافياً وتواصلاً حضارياً مع بلدان ناطقة بالفرنسية، وأنه جدار صد لمقاومة التحديات الإنكلوسكسونية وجميع أشكال التنميط الثقافي والإعلامي والهيمنة الأنكلوفونية.
اختار وليد الزيدي عام 1959 كتاريخ لبدء الدراسة، لأن فرنسا بدأت تطور سياسة ثقافية واضحة منذ ذلك العام مع تولي أندريه مالرو منصب أول وزير للثقافة في عهد الجنرال ديغول، حينها أصدر عدة قوانين متعلقة ببيوت الثقافة ومراكزها، فضلاً عن قوانين حماية التراث ودعم المتاحف الكبرى في فرنسا. واختار عام 1986 كتأريخ لانتهاء الدراسة، نظراً إلى انعقاد أول مؤتمر فرنكوفوني في مدينة فرساي في فرنسا الذي حدد مساراً جديداً للسياسة الثقافية من خلال الدول والحكومات الأعضاء في المنظمة الفرنكوفونية.أما سبب اختيار الأنموذج اللبناني في هذه الدراسة، فيعود إلى أن السياسة الثقافية الفرنسية أكثر تأثيراً في لبنان مقارنة ببلدان المشرق العربي الأخرى، وترى فرنسا أن لبنان يمثل نواتها في الشرق.ماهيات وتوجهات تبعاً لإشكالية سياسة علاقات فرنسا الثقافية في الخارج، لا سيما مع البلدان التي استعمرتها، ومن بينها لبنان، حلَّل المؤلف بدقة مفهوم الثقافة والسياسات الثقافية بشكل عام، ومن ثم حاول لكشف ماهيتها وتوجهاتها، كذلك تناول الزيدي وسائلها وأدواتها ودوافعها وأهدافها، مقسماً دراسته إلى أربعة فصول. تناول الفصل الأول، الذي حوى ثلاثة مباحث، لمحة تاريخية عن تأريخ السياسات الثقافية وعرّف مصطلح ومفهوم الثقافة والسياسات الثقافية وأهميتها، فضلاً عن دراسة الجذور التاريخية للعلاقات الثقافية الدولية وتطورها، دراسة تاريخ العلاقات الثقافية وبدايات نشوء السياسة الثقافية في فرنسا، توجهات السياسة الثقافية الفرنسية ودوافعها، مراحل تطور السياسة الثقافية الفرنسية بين عامي 1959 و1986، وطبيعة سياسة فرنسا الثقافية تجاه لبنان.وتتطرق الزيدي في الفصل الثاني (أربعة مباحث) إلى دراسة توجهات السياسة الثقافية الفرنسية وأدواتها، متناولاً بدايات عمل البعثات الدينية والتبشيرية والمنظمات والبعثات العلمية والعلمانية، وبدايات نشوء اللغة الفرنسية وانتشارها ومكانتها عالمياً، وأهم المؤسسات الداعمة لها. كذلك بحث في نشر الثقافة الفرنسية، فضلاً عن الإشارة إلى دور المراكز الثقافية وانتشارها في العالم، وأهمية وسائل الإعلام والاتصال المسموعة والمرئية، وفاعلية دور الصحافة والكتاب الفرنسي والسينما في فرنسا.أما الفصل الثالث فقد خصصه وليد الزيدي لدراسة السياسة الفرنسية في لبنان بوصفه أنموذجاً، فتناول بدايات الاتصال الثقافي بين فرنسا ولبنان، مشيراً إلى أهمية لبنان في سياسة فرنسا الثقافية ودور البعثات والإرساليات التبشيرية، ودور المستشرقين والرحالة الفرنسيين في نقل الثقافة واللغة الفرنسيتين في لبنان وترسيخهما، مع تبيان أسباب هجرة المثقفين اللبنانيين إلى فرنسا وتأثيراتها. كذلك تناول هذا الفصل أداة التأثير الثقافي الفرنسي في لبنان في مجالات «نشر اللغة الفرنسية، والتعليم بالفرنسية، وتطرق إلى المراكز والمؤسسات الثقافية الفرنسية والفرنكوفونية».الفصل الرابع درس تأثيرات سياسة فرنسا الثقافية في لبنان من خلال ثلاثة مباحث تناولت واقع التعليم باللغة الفرنسية في لبنان، وتأثيرات سياسة فرنسا الثقافية في وسائل الإعلام في لبنان، وتأثيراتها في الهوية الوطنية والقومية اللبنانية، وأخيراً تأثيرات سياسة فرنسا الثقافية في إيجاد أدب لبناني مكتوب بالفرنسية. أما الخاتمة فتضمنت خلاصة عامة وأهم استنتاجات الباحث.يفيد أبرز الاستنتاجات التي توصل إليها الباحث بأهمية توطيد العلاقة بين فرنسا ولبنان في المجال الثقافي على شكل «حوار بين ثقافتين»، وما يعنيه ذلك من احترام وحفاظ على خصوصية الطرفين الثقافية، والتعاون نحو الإبقاء على البعد الذي طرحته فرنسا الرامي إلى «التعدد الثقافي واللغوي»، لأجل تفادي الذوبان في ثقافة واحدة أو هيمنة ما، والاستفادة من تطور فرنسا في تعزيز التعاون الثقافي، لا سيما في مجالات الأدب والموسيقى والسينما وغيرها، على أن تكون أوجه التعاون كافة قائمة على أساس تبادل لغوي وثقافي مبني على تفاعلات تتسم بالتكافؤ والتوازن المتبادل على المستوى نفسه، وفي المجالات كلها. ولعل التعاون في الجانب الثقافي، وفي غيره من جوانب، قد يوظف لاتقاء مخاطر ما سمي بـ»صدام الحضارات»، الذي هيأت له ولما تزل دول الغرب لغرض اصطناع صراع مفتعل بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وقد تُجر فرنسا إليه وعدد من البلدان الفرنكوفونية، إذا بقي العرب بعيدين عن السعي نحو نزع فتيل هذا الصراع المفتعل، والعمل على توظيف معطيات السياسة الدولية لصالحهم، ذلك بكسب أو تأييد أطراف ولاعبين لهم أهمية كبيرة في عالم السياسة الراهنة اليوم، لعل في مقدمتهم فرنسا.