بين يديّ أحد إصدارات «عالم المعرفة» بعنوان «الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا»، لمؤلفه الدكتور محمد رضا كدكني، وترجمة الدكتور بسام ربابعة. ويمكن الاستدلال على زمن كتابة هذا المؤلَّف من خلال مقدمته، والذي يعود إلى منتصف تسعينيات القرن العشرين على أبعد تقدير. وسبب وقوفي عند زمن التأليف يعود إلى فضولي المتزايد لمعرفة مدى صدقية عنوان الكتاب، خاصة في ما يتعلق بشقه الفرعي (وحتى أيامنا). علماً أن المؤلف الدكتور كدكني من مواليد عام 1939م، وحيث إنه ألف الكتاب منتصف التسعينيات، فقد كان ينبغي أن يدرج ما طرأ على الأدب الفارسي من متغيرات الواقع الثقافي (حتى أيامه)، أي حتى ما بعد الثورة الإسلامية.

Ad

ولعلنا غير ملومين في ارتفاع نسبة الفضول لدينا في معرفة ماذا يكتب الشعراء والأدباء الفرس في أيامهم هذه، بعد أن دخلت إيران معتركاً سياسياً وعقائدياً وأيديولوجياً على جانب لا يستهان به من التعقيد والإرباك. ولكن للأسف لم أجد ما يشفي الغليل في ما يتعلق بهذه المرحلة المتأخرة، إذ وقف المؤلف عند مشارف عام 1970م، دون التجرؤ على الخوض إلى ما وراء ذلك، رغم المعاصرة والمعايشة!

ورغم خيبة الأمل هذه، فإن الولوج إلى تضاعيف الكتاب يأخذك إلى لون من طمأنينة العارف الذي لا يكاد يتوغل في أرض غريبة حتى يدرك وكأنه مرّ في هذا المكان من قبل، أو كأنه يحدس بمنعطفاته وأنحائه. خامرني هذا الشعور وأنا أقرأ في مراحل تطور الأدب الفارسي، لأجده يكاد يشابه مراحل تطور الأدب العربي في ظروفه التاريخية والسياسية ومؤثراته الثقافية. وهذا أمر بدهي ما دامت بلاد فارس واقعة ضمن رقعة إقليمية تكاد تتوحد فيها مجريات تاريخ المنطقة وثقافتها منذ ظهور الإسلام، وعبر سلسلة أحداث وأنظمة ودول سادت ثم بادت.

فكما شهد تاريخ الشعر العربي في قرونه الهجرية الأولى قامات شعرية مثل أبي تمام والبحتري والمتنبي، كان للفرس الفردوسي والخيام وجلال الدين الرومي وسعدي وحافظ. وحين بدأ عصر الانحطاط (الثقافي) بسقوط بغداد بيد المغول وتشرذم الدويلات الإسلامية، تواصل الانحدار أيضاً في بلاد فارس التي خضعت لقبضة تيمورلنك حتى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. فلم يحفظ تاريخهم الشعري خلال فترة انحطاطه بأفضل من عبدالرحمن الجامي الذي كان ممثلاً لذلك اللون من الشعر التقليدي المتهالك المثقل بالصنعة والتعسف والحيل اللغوية والصور النمطية والعاطفة المتكلفة. وكأني بهذا الوصف يتحدث عن شعر عصر الانحطاط الأدبي في نسخته العربية إبان العصر المملوكي والعثماني، حين غدت لغة الشعر وعاءً للمحسنات البديعية والبيانية ووسيلة للزخرفة الفارغة والبهلوانيات اللغوية العاطلة من العاطفة والمعنى.

ينتقل المؤلف بعدها إلى العصر الصفوي الذي امتد حتى القرن الثامن عشر الميلادي، وراج فيه ما يسمى بـ»الأسلوب الهندي»، الذي عُرف في إيران وأفغانستان وطاجكستان وأوزبكستان بسبب ما، بينها من تداخل إقليمي ولغوي، فجميع هذه الأقاليم تنطق بالفارسية. و»الأسلوب الهندي» فيه محاولة للتقليل من التكلف اللغوي السالف إبان العصر التيموري، وارتياد لغة أكثر سهولة وواقعية وألصق بتجارب الحياة الإنسانية. من عناصر التجديد أيضاً الخروج من الصور الشعرية التقليدية في الغزل والوصف إلى آفاق التجريد والغموض، وإلى التوليد من اللهجة العامية. كما طال التجديد شكل البيت الشعري وتخلص من التصريع والتوازن الهندسي المبالغ فيه.

يقول المؤلف في وصف الحياة الأدبية في العصر الصفوي: «كانت أكثر المقاهي في العصر الصفوي مراكز للنوادي الأدبية، وكان الملوك الصفويون يزورون هذه المراكز أيضاً ويظهرون الرغبة أحياناً في سماع آثار الشعراء، وكانت هذه المقاهي، التي تُعد مراكز لتطور الشعر وانتشاره مكاناً يتردد عليه الحرفيون والكادحون، ولذا فقد كان اختلاط الشعر مع حياة طبقة العمال هو الذي سمح بظهور عناصر من حياة هذه الطبقة في مضمون الشعر وميدان الكلمات وفي التصاوير الشعرية أيضاً».

(يتبع)