عنقاء إسماعيل 2
تطرقت الأسبوع الماضي الى ما مفاده أن إسماعيل فهد إسماعيل تخلص من بساطة المتخيل الروائي للدخول في صعوبة الحكي عن سيرة لإنسان تتلاقى أقداره بأقدار كثيرين أمثاله، ربما بدرجات حياتية أكثر صعوبة أو أخف وطأة. العمل بمجمله وثيقة تاريخية روائية هي محصلة هذا العناء الطويل للقهر الاجتماعي الذي تعيشه فئة من الناس بين نبل الأصدقاء، الأسماء الحقيقية في العمل، وغدر بعض الأهل وأقربهم، بعيدا عن شرعنة الوجود الإنساني للكائن. القصة التي حاكتها الرواية لا تحتاج لتفصيل نقدي لمعرفة دقائق تفاصيلها، رغم متعة السرد وارتفاع وتيرة الأحداث كلما برزت لحظة الخلاص والعودة إلى صفر البداية حتى الوصول إلى نهاية هي الصفر ذاته، والانطلاق الى بداية جديدة لا نتعرف الى نهايتها. لن أشرح ما هو مشروح ولن أفسر ما تم تفسيره وكأنني أقرأ قراءة إسماعيل وأستعيد صوته. سأتطرق الى بحثين صغيرين هنا بسبب حجم المقال، لكنهما موضوعان بحاجة لبحث أطول.
الطريقة التي كتبت بها الرواية، وليس الأسلوب الذي طبع به إسماعيل جل أعماله تفردا عن سواه، انقسمت الى شقين، الأول النفس الطويل للكتابة دون فصول تقسيمية أو أجزاء بعد فصل وحيد، الفصل الأخير ليس إلا جملتين تجسدان يأس اللقاء، هو استعارة لما يمكن أن يكون النفس الحياتي المتواصل للشخصية الرئيسية في الأحداث، من خلال وتيرة تصاعدية دون أن تؤثر الأمكنة المتباينة التي شهدت الأحداث في حياة الراوي المرهونة دائما للمكان الأصل وهو الكويت، والثاني هو سبب هذه المعالجة، فالرواية في مجملها هي وثيقة شهادة شخصية يكتبها الراوي ويستودعها صندوقا لابنة لم يرها ولن يراها ويعرف عنها اسمها فقط وهو اسم له إحالة لاعتقاد والدتها المذهبي دون أن يكون لهذا الاعتقاد خصوصية تأثيرية خارج الانتماء الوطني للوالدة. فالنص الذي نقرأ لإسماعيل هو ممارسة كتابية سابقة لأحداث لم يحدثنا الروائي الكاتب عن كيفية وقوعها بين يديه. لكنه تحقيقا لصدقها كتبها الأب إيضاحا لحالة الابتعاد القسري عن فتاة تكبر في غيابه الذي حتما ستبرره الوالدة بخلاف ما جاء في وثيقته.البحث الثاني هو لجوء الكاتب بنجاح كامل الى مصطلح ما بعد البنائية، واستخدامه مجموعة من الكتب التي تداخلت في ما بينها للتناص وحالة الكتابة. فالكاتب/الراوي أو منسي كما جاء اسمه، وليس الروائي، يعمد الى مجموعة من الكتب ليس بغية التأثير في كتابته ولا تدعيما لقدرته الكتابية لكن لامتزاج حالتها وفق الحالات التي يمر بها أثناء منعطفات حياته المهمة. ابتداء من الحمار الذهبي لأبوليوس، وانتهاء بالقرآن الكريم في مرحلة السجن، مرورا بلوحة حنظلة الكويتي كنص أدبي له دلالاته، والكتاب الأكثر أهمية في الرواية، والذي أشار اليه الراوي مرتين، هو رواية 1984 للروائي جورج أورويل كتبها عام 1948. أهمية هذه الرواية في العمل الكتابي الذي يمارسه الراوي تشبه الحالة التي عاشها خلال الغزو العراقي كأحد الأفراد مسلوبي الإرادة، وحال بطل أورويل وينستون سميث، الذي يقع تحت مراقبة دائما من الأخ الأكبر، وتهديد دائم بالتعذيب وغسيل الدماغ. تلك إحالة ذكرها الراوي، أما الذي لم يذكره هو ما تعرضت له علاقة سميث في رواية 1984 بالفتاة جوليا التي أحبته دون مباركة الأخ الأكبر، وهو هنا سعود أخ عهود في الرواية أو السلطة. وكما نجح أوبريان في إخراج جوليا من حياة سميث نجح سعود/السلطة في إخراج عهود من حياة منسي. وأكثر من ذلك نجحت معوقات السلطة في إبعاد منسي عن ابنته زينب. إضافة لتشابه المكانين نقيضي اليوتوبيا.