حين عدت من السفر كان برد لندن في انتظاري. حجّم حركتي أياماً، مع معرفتي أن أكثر من معرض فني في انتظاري أيضاً. فجأة انقلب المناخ القُلّب، وشاع الدفء، فخرجت أقصد المتحف البريطاني، ففيه معرض عن الفن في العصر الجليدي. مفارقة وجدتها لا تخلو من إثارة. هارب من آثار البرد اللندني ويسعى إلى آثاره بين جليد عصر غابر. ولكني لم أنعم بالمفارقة، لأن مكتب التذاكر فاجأني بنفاد التذاكر حتى الرابعة والنصف عصراً: «لك أن تأتي حينها وستحصل على تذكرة بالتأكيد. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف، ولا سبيل إلى الانتظار. شكرت السيدة وفهمت حينها دعوى الحجز المبكر بالهاتف أو الإنترنت.

Ad

 لم أعد خائباً، ففي البال معرض آخر لا برد فيه، بل كثير من دفء؛ أبرز رواد «الانطباعية» الفرنسية: «مانيه». توجهت بحماس إلى قاعات «الأكاديمية الملكية»، لأنها تقدمه هذه المرة كرسام للبورتريه، وبورتريه الحياة الحديثة بشكل خاص، كما ورد في عنوان المعرض. وهذه فرصة ليست يسيرة دائماً، فـ»مانيه» هو الأب الشرعي للمدرسة الانطباعية، ورسام الحياة الحديثة بامتياز.

ينتسب إدورد مانيه (32-1883) إلى عائلة غنية، حررت رغبته في ألا يعيش من فنه. وبالرغم من اعتماده قيافة في الملبس، حتى وهو يمارس الرسم، فإنه كان كياناً متمردَ الطبع في داخله.خالف إرادة أبيه في أن يدرس القانون، وانصرف إلى الرسم. مع الرسم خالف ميله الفني إلى «الواقعية»، التي كانت شائعة آنذاك، وصار يربك علاقة اللوحة بالواقع، ولا يلتزم تماسكاً في الأسلوب. رُفض عددٌ من أعماله من قبل «صالون باريس»، القيّم على معايير الفن آنذاك، فاشترك لعرضها في «معرض المرفوضات» الاستثاري. ولقد حققت لوحته «غداء على العشب» الاستثارة المرغوبة. كانت لوحة صادمة، محيرة، استعصت على فهم الجمهور آنذاك، وربما على جمهور اليوم (تشبه استثارتها استثارة لوحته «كولومبيا»). لأن مانيه أراح في وسط اللوحة، وعلى عشب الحقل الربيعي، ثلاثة شخوص باريسية من حياته: رجلان بكامل قيافتهما وامرأة عارية تماماً. انشغال الرجلين بالحديث المرسل، والتفاتة المرأة العفوية إلى الجمهور يمنح انطباعاً بأن الأمر غاية في الطبيعية. ملابس المرأة العارية، قطعة خبز وسلة فواكه. وامرأة بلباس شفاف على مبعدة وسط مجرى الماء. الروائي أميل زولا كتب في حينها مستغرباً بأن متحف اللوفر يضم عدداً من الأعمال التي تعرض رجالا بملابس وامرأة عارية. فلمَ ردة الفعل هذه؟ ولكني أعتقد أن زولا غفل عن إرادة النيةَ المبيّتة لدى الفنان مانيه. فالعارية في اللوحة الكلاسيكية عادة ما تهدف إلى إبراز مهارة أو نزعة مثالية لدى الفنان. لدى مانيه كانت امرأة حية من طبقة باريسية وسطى. يمكن أن تكون أي امرأة بين الجمهور. والمجموعة يمكن أن تكون أي مجموعة باريسية في نزهة. وبالفعل استخدم مانيه زوجته موديلاً للعارية، وأخاه وقريبه موديلاً للرجلين.

انفردت إحدى القاعات الثماني الكبيرة بلوحة واحدة، هي لوحة «موسيقى في حدائق تولييري» لأهميتها التاريخية. الجمهور كالعادة أحاط بها بفضول، فهي لوحة متوسطة الحجم، تضم جمهرة غفيرة من أعلام المرحلة الذين يعرفهم مانيه عن قرب: بودلير، غوتير، فانتان، أوفنباخ... يحيطون بفرقة موسيقية تعزف في الهواء الطلق. كان مانيه يوافق بودلير على أن الموسيقى هي أرفع أشكال الفنون، لأنها شكل خالص، ولا تعتمد المحاكاة. ولذلك حاول في هذه اللوحة أن يجعل الشكل متفوقاً على المحتوى الوصفي، الذي حوله إلى عناصر بصرية تجريدية، عن طريق تكرار درجات لونية محدودة عبر مساحة الكانفس. ما من تفاصيل واضحة تنقل محتوى المشهد. بل هناك عناصر واضحة لاستثارة العين.

في المعرض الذي ضم 60 لوحة مستعارة من أماكن مختلفة من العالم، هناك أكثر من بورتريه لأعلام المرحلة من أصدقاء مانيه المقربين: البورتريه الشهير للشاعر الرمزي مالارميه، والآخر للروائي أميل زولا، والفنان ديسبوتان. دعك من الآخرين الذين ضمتهم لوحة «موسيقى في حدائق تولييري» آنفة الذكر.