البنوك المركزية تخاطر بالإفراط في تقاسم المعلومات مع المستثمرين
لأن الأسواق هشة جداً فهناك خطر بأن يدفع مسؤولو البنوك المركزية السياسة النقدية للأسواق على نحو يفوق الحد، وكل هذا يؤدي إلى حركات لولبية مفرطة في كل مرة يخاطر فيها أحد صناع السياسة ببيان يهدف إلى تسكين الألم.
حين كان البنك المركزي الألماني في أوجِه في ثمانينيات القرن الماضي، كان يتلذذ بمفاجأة الأسواق وإحراجها بتغيرات مفاجئة في أسعار الفائدة. بالنسبة لمسؤولي البنوك المركزية في الجيل الحالي، يعتبر هذا النوع من السلوك دلالة على بلادة الحس إلى درجة مثيرة للسخط والافتقار إلى الحكمة. وهم يتذكرون بنوع من الذعر تجارب من قبيل الهزيمة المنكرة لسوق السندات في 1994 حين اعتُبِرت زيادة غير متوقعة في أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفدرالي، مضرةً بصورة بالغة بالاقتصاد الأميركي.
بعد ذلك جاءت فترة طويلة كان فيها مجلس الاحتياطي الفدرالي، برئاسة آلان جرينسبان، يدير توقعات السوق بمنتهى الحذر. تُوِّج ذلك بالتجربة بين 2004 و2006 حين رفع الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بمعدل 0.25 في المئة فقط على مدى 17 مرة. هذه المعاملة التي اتسمت بـ «تدليع» الأسواق والخطرة أخلاقياً سهَّلت نشوء فقاعة ائتمان أدت إلى الانقباض الائتماني في 2007، والأزمة المالية التي أعقبت ذلك. الاستجابة للسوق لم تكن الاستجابة هي التوقف عن تدليع السوق، وإنما في جعل هذا الإطعام أكثر عمقاً وتطوراً. في الفترة الحالية من الإجراءات غير التقليدية من البنوك المركزية لدينا الآن إرشاد مسبق، حيث يقوم صناع السياسة بالالتزام المسبق بمسار معين على أمل أن هذا سيؤدي إلى تخفيض تكاليف الاقتراض. لكن الخطورة في الإرشاد من هذا القبيل هي أن الناس سيستنتجون أن الاقتصاد أضعف مما كان يُظَن سابقاً وبالتالي فإن القطاع الخاص، الذين يشعر بالتثبيط في هذه الحالة، يقلص من إنفاقه. حاول صناع السياسة التغلب على هذه الصعوبة عن طريق تحديد المؤشرات الاقتصادية التي ستملي إجراءاتهم المستقبلية، وهو منهج معروف في الصناعة بعبارة «إرشاد العتبة المتوقف على الحالة». وقد أعطى بن برنانكي، رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي، أوضح مثال على هذا النوع من السياسة حين ربط أي تراجع عن برنامج شراء الأصول في البنك، بمؤشرات معينة في سوق العمل والتضخم. مع ذلك حين عرض بياناً تمهيدياً حول نوايا البنك في تقليص مشتريات الأصول، اهتزت أسوق السندات والأسهم عبر العالم. فما السبب في رد الفعل المتطرف من هذا القبيل؟ جزء من التفسير مرتبط بهيكل السوق. يشير هنري ماكسي، من مجموعة روفر لإدارة الصناديق، إلى أن طاقة التوسط المالي للقطاع المالي تقلصت بصورة لا يستهان بها منذ بداية الأزمة المالية. أسواق الدخل الثابت وبسبب مخاوف حول الميزانيات العمومية والضغط التنظيمي، قَلَّت قدرة البنوك على اتخاذ تعاملات كبيرة في المخرون من أجل وقاية الحركات. ويضيف أنه في الوقت نفسه ازدادت أسواق الدخل الثابت العالمية من نحو 40 تريليون دولار إلى 100 تريليون دولار على مدى السنوات العشر الماضية. وهذا اقتران يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وما يزيد من تعقيد الوضع هو حركيات التحوط التي تزداد فيها الحاجة إلى التحوط من مخاطر أسعار الفائدة من خلال بيع السندات مع ارتفاع أسعار الفائدة. ومن ثم فان البيع يلد البيع. والنتيجة هي تضخيم مفرط للتغيرات الهامشية في السياسة النقدية الأميركية. إن الجمع بين التسهيل الكمي وعملية الإطعام السهل هي أيضاً غير مفيدة. منذ مطلع التقشف المالي، تولت البنوك المركزية مسؤولية الاقتصاد الفعلي، في حين أن مهمتها التقليدية التي انتُدِبت إليها هي التصدي للتضخم. توقعات السوق من البنوك المركزية موضوعة عند مستويات عالية فوق الحد. وحيث إن الأسواق هشة للغاية هناك خطر بأن يدفع مسؤولو البنوك المركزية السياسة النقدية للأسواق على نحو يفوق الحد، وكل هذا يؤدي إلى حركات لولبية مفرطة في كل مرة يخاطر فيها أحد صناع السياسة ببيان يهدف إلى تسكين الألم. للإنصاف أقول إن من الصعب تماماً توصيل الإرشاد المسبق، وهذا هو السبب في أن الكثير من التصريحات في الولايات المتحدة وأوروبا كانت عبارة عن هوجة. خذ مثلاً القرار الأخير من البنك المركزي الأوروبي بالتخلي عن كرهه للالتزام المسبق بخصوص أسعار الفائدة المستقبلية. قال رئيس البنك المركزي الاوروبي ماريو دراجي إن أسعار الفائدة ستظل عند مستواها الحالي أو دونه «لفترة أطول من المعهود». لكن تعريف هذه الفترة تُرِك دون توضيح. غموض وارتباك وحين كاد عضو مجلس الإدارة التنفيذي يورج أزموسين أن يأتي بتعريف لها، اضطر البنك إلى إصدار تصريح بأنه لم تكن لدى أزموسين نية لإعطاء إرشاد حول مقدار الطول غير المعهود. على الأرجح كان الغموض والارتباك ضرورياً نظراً لحاجة دراجي لتأمين مساندة الحمائم والصقور في البنك المركزي من بلدان أوروبا الشمالية للسياسة المثيرة للجدل. حدث هذا على خلفية من عملية إطفاء الحرائق في الولايات المتحدة. بعد اهتزاز السوق سعى محافظو الاحتياطي الفدرالي ليشرحوا أن معدل شراء السندات ستمليه الآفاق الاقتصادية وليس التقويم، وأنه طالما استمرت عملية شراء السندات، فإن البنك سيضيف التسهيل في السياسة النقدية حتى لو كان مستوى المشتريات أدنى من السابق. أذكر بوضوح في أوائل السبعينيات من القرن الماضي أني سمعتُ بالصدفة في إحدى الحفلات رئيس الشؤون العامة في بنك إنكلترا، وهو يشرح أن دوره هو البقاء على اتصال مع وسائل الإعلام وضمان ألا ينقل إليهم أي شيء ذي بال. لا نستطيع العودة إلى تلك الأيام. لكن فيما يتعلق بالشفافية، من الممكن أن الأسواق أخذت نصيباً يفوق الحد ربما كانت له آثار سلبية. (فايننشال تايمز)