وتأتي مرحلة البزوغ بعد الكمون متمثلة بالوقوف على المنصة وأمام جمهور لتكون اختباراً لصوتي الطالع للتو. كان ذلك في شهر فبراير من عام 1979م، وكانت المناسبة حفل تأبين الرائد المسرحي صقر الرشود إثر وفاته في حادث مأساوي، لم يكن الحفل هو حافز كتابة النص، بل الموت بحدّ ذاته والتساؤل حول عبثيته وعشوائية اختياره هو الذي خلق النص سلفاً.

Ad

إن سرّ الجاذبية في نص "باقية عيناك في الفجر" يكمن ربما في صدقه العاطفي، وانحيازه الواضح للتسامي والاستعلاء والكدح الإنساني الجميل المتمثل في مسيرة صقر الرشود، أكثر من أي شي آخر. إذ يبقى هذا النص بغنائيته المسرفة وجرْسه الصاخب نموذجاً ممثلاً لشعر البدايات ليس إلا. ولكن يبدو أن الأجواء في حفل التأبين الذي حضره خاصة المثقفين والمهتمين كانت مهيّأة حينها لذلك الاستقبال الحار الذي قوبل فيه النص عند إلقائه على المنصة. وأكاد أجزم أن السعد كان حليفي في تلك الأمسية النادرة المبهرة، التي خرجتُ فيها لأجرب الطيران أول مرة.

وتتوالى بركات الظهور الأول، أو الأهم إذا صحّ التعبير، حين تم اختياري من قِبَل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب للاشتراك في الأسبوع الثقافي الكويتي في المغرب ربيع 1979م. لم تكن تلك مجرد تجرية أولى على منصة أكثر أهمية، بقدر ما كانت محكاً وتدريباً على نمط أرقى من المسؤولية. ولعل مفاجأة هذه المناسبة الثقافية – بالنسبة لي – كانت تكمن في تلك المفارقة المدهشة، حين وجدتُ نفسي أشارك منصة الإلقاء مع أحمد السقاف بعراقته التقليدية، وخالد سعود الزيد بتمكنه الفني وجهوريته! ولعل المجلس الوطني بتقديمه لهذا المزيج من الأجيال والاتجاهات – إبان عهد أحمد مشاري العدواني حينذاك - كان يمثّل الانفتاح وسعة الأفق، تماماً كما كان يراهن على خياره الثقافي وانحيازه لنبض الإنسان.

 وتتأكد عناية المجلس الوطني ورعايته لجيلنا الجديد حينذاك، حين يعاود الكرّة في اختياري بعد أقل من عام للمشاركة في الأسبوع الثقافي الكويتي في بغداد جنباً إلى جنب مع جنة القريني وعبدالله العتيبي وخالد سعود الزيد، لنمثل جميعاً تلك التشكيلة الملونة من الأصوات والتوجهات والتجارب الفنية. ولعله من فضلة القول التنويه إلى دور رابطة الأدباء في التزكية والترشيح لأمثلة هذه المشاركات في الخارج، الأمر الذي يعدّ مؤشراً إيجابياً على روح التعاون والتنسيق التي سادت بين المؤسستين الثقافيتين، وسعيهما الدائب نحو التكامل في إبراز المشهد الثقافي المحلي في أفضل صوره.

ما كانت مرحلة البدايات تلك مرحلة دفق نفسي وعاطفي فقط، بقدر ما كانت مرحلة دربة وتعلّم وحرص على التجويد. وهذا الميل إلى التجويد ما كان يتعارض على الإطلاق مع النوايا التجديدية والرغبة في تجريب الأدوات الفنية الحديثة، ويأتي على رأسها مسألة "الشكل" في النص الشعري.

 لذلك ما كان ضرورياً في نظري التلكؤ عند مشهد لم يعد يمتلك الحضور، فالزمن الإبداعي من حولنا يجري بسرعة مذهلة، وما عاد ينتظر المتلكئين. كما أن أواخر سبعينيات القرن العشرين وأوائل ثمانينياته لم تعد تحتمل المزيد من المناورة حول الشعر العمودي! صحيح أنه حتى نهاية السبعينيات كان المشهد المحلي يراوح ويتردد إزاء نص شعر التفعيلة، إلا أن جيلنا الطالع حينئذ ما كان جيل شعر عمودي، وما كان من المستساغ ارتداء جبة ومسوح لا تتناسب وقاماتنا. ومن هنا جاءت أصواتنا خلال الفترة السالفة الذكر لتلون المشهد الرصين، ولتتخذ من شعر التفعيلة ملاذاً وبيتاً. كنتُ وباقة من الوجوه ممن قدمتهم منصة رابطة الأدباء كجنة القريني وفيصل السعد وسليمان الفليّح نصرّ على تقديم نصوصنا التفعيلية في كل المناسبات تقريباً، مما ساعد في ضخّ دماء جديدة، وساهم في تلوين المشهد الشعري المحلي، وإخراجه من نمطيته وسكونيته. وربما لا نستطيع أن ننكر في هذا المقام تأثير أصوات شعرية رائدة كانت قد سبقتنا في التأسيس للشعر التفعيلي على الساحة المحلية كأحمد العدواني ومحمد الفايز وعلي السبتي، ثم لحقهم بعد لأي خليفة الوقيان.

 ولكن – ومن سوء الحظ – أن هذا الانطلاق نحو التجديد لم يواكبه تقييم جاد أو مناورات نقدية حول قيمته أو انتفائها. فقد شهدت الساحة الأدبية لوناً من الانحسار في هذا النشاط خاصة واقتصر الأمر في نهاية المطاف على تعليقات مبتسرة وتقارير محايدة تتداولها الصفحات الثقافية في الصحف السيّارة.

 لا ريب أن ظلال التجريب والدربة كانت ترين على جيلنا الطالع حينذاك، ولكنني أعتقد جازمة بأنه لو تهيأت لنا فرص التقييم والتوجيه الجاد، لربما استطعنا حرق مراحل نضجنا بسرعة أكبر وأداء أفضل.