يتعرض فلاديمير بوتين لانتقادات شديدة خارج روسيا، فقد أُعطي غالباً دور الشرير، بدءاً من قضايا ألكسندر ليتفينينكو وميخائيل خودوركوفسكي و"بوسي رايوت" وصولاً إلى رعاية القوانين المناهضة للمثليين الجنسيين. أما التقارير التي لا تحذّر العالم منه، فتهزأ بهذا الرئيس الذي يأخذ حيناً دور ممارس الفنون القتالية، وأحياناً أخرى دور محب الغطس أو لقاء النمور.

Ad

لكن الخطابات واللغة المستخدمة في افتتاحيات الأخبار راهناً تذكرنا بالحرب الباردة، فقد أدى تحدي الرئيس الروسي الولايات المتحدة في قضية إدوارد سنودن والسماح لهذا المنشق الرقمي بالبقاء في مطار شيريميتيفو في روسيا لأكثر من شهر، فيما يغلي البيت الأبيض بسبب موقف روسيا في هذه المسألة وفي الأزمة السورية، إلى موجة مناهضة لبوتين في وسائل الإعلام الغربية.

 حكم اللصوص في الكرملين

ذكر ألكسندر سولزينيتسين في مقالاته في صحيفة Komsomolskaya Pravda خلال الأشهر الأخيرة من العهد السوفياتي: "ما عادت ساعة الشيوعية تدق، لكن صرحها الإسمنتي لم يتهاوَ يعد؛ لذلك، بدل أن نحرر أنفسنا، يجب أن نحاول إنقاذها من الموت تحت حطامه"، ولكن بعد سقوط النظام السوفياتي عام 1991، لم تقتصر المشكلة على الحطام، ففي عقد كارثي، تبددت أصول البلد، فقد برزت رأسمالية العصابات، وراحت تفترس هذه الدولة المتهاوية.

تحوّل معظم النخبة السياسية القديمة (الشخصيات البارزة التي تولت أعلى المناصب في الحزب والدولة) بسرعة إلى طبقة وسطى تملك العقارات، في حين تولى حكم البلاد مجموعة من الأقلية "الأرستقراطية" الحديثة الفاحشة الثراء. نتيجة لذلك، عانى الفقراء، تلك المجموعة الكبيرة ممن فقدوا وظائفهم بسبب سرقة الأمة، والمتقاعدون، والمرضى، والشبان الذين صارت فرص متابعتهم تعليمهم مجرد لعبة حظ. وهكذا تراجع متوسط العمر المتوقع بين الرجال من 65 سنة في عام 1986 إلى 57 سنة نحو منتصف تسعينيات القرن الماضي.

ترأس هذه المأساة بوريس يلتسين، قائد فرقة موسيقية ألمانية سكير، زعيم غبي، وسياسي فاسد سعى لملء جيوبه وجيوب الآخرين بدون أي رادع، إلا أنه يبقى في المقام الأول مدمر أقرب ما قد حظيت به روسيا عام 1993 إلى برلمان بقصفه "البيت الأبيض" الروسي.

علاوة على ذلك، تلاعب يلتسين بوضوح بانتخابات عام 1996 ليبقى في السلطة لولاية ثانية، حارماً خصومه من حقّ التعبير. رغم كل ذلك، حظي يلتسين، بخلاف بوتين، بتأييد الصحافة الأجنبية، وظلت صورته جيدة في الغرب.

يعود ذلك إلى سببين: كان البديل الوحيد ليلتسين بقايا الحزب الشيوعي، وقد حرصت رئاسته الغريبة على أن هذا الحزب لن يتمكن مجدداً من إعادة تنظيم صفوفه والسيطرة على السلطة. علاوة على ذلك، تمكن الكثير من المصالح الأجنبية (وخصوصاً الخدمات النفطية والمالية والقضائية وبعض المؤسسات الزراعية) من الحصول على جوائز كبيرة من ذلك الحوض الروسية الموحل، المضطرب، والوسخ.

في عام 1998، أوقفت أزمة عملة كبرى هذه العملية، فاضطر يلتسين إلى التنحي عن السلطة لأسباب "صحية"، وعُيّن بوتين المغمور نسبيّاً خلفاً له عام 1999.

بوتين يترك بصمته

ظننا في البداية أن بوتين سيكون، مثل يلتسين، مجرد دمية في يد النخبة الحاكمة ونظام حكم اللصوص في الكرملين، ولكن سرعان ما تبيّن أنه يتمتع بقوة سياسية خاصة به، وفي أول صراع كبير واضح عام 2004، اعتقل الروسي الأغنى والأكثر نفوذاً، ميخائيل خودوركوفسكي، الذي كان آنذاك يحتل المرتبة السادسة عشرة في لائحة فوربس لأغنى الأثرياء في العالم.

هرب آخرون إلى الخارج، مثل بوريس بيريزوفسكي، الذي منحته المملكة المتحدة اللجوء وانتهى به المطاف إلى الانتحار في مطلع هذه السنة. أما بيريزوفسكي السابق، رومان أبراموفيتش، الذي خاض معه بيريزوفسكي صراعاً طويلاً في المحاكم في لندن وخسر، فاتبع استراتيجية مختلفة.

صحيح أن تحوّله إلى شخصية عامة في الحياة البريطانية منحه بعض الحماية من سيطرة بوتين، إلا أنه حافظ في الوقت عينه على علاقات عمل جيدة مع بوتين الذي كرّمه بإعادة تعيينه حاكم منطقة تشوكوتكا الصغيرة والنائية عندما أراد التخلي عنها عام 2004. يتلاءم هذا مع أسلوب بوتين الجديد. فقد رفض أن يكون لعبة في يد النخبة الحاكمة، التي باتت مضطرة إلى السير وفق ما يرسمه لها أو ترحل من روسيا، واكتسب بوتين شعبية كبيرة عام 2009 بتوبيخه علانية أحد أغنى رجال الطبقة الحاكمة في روسيا، أوليغ ديريباسكا، بسبب العجز في مصنعه للألمنيوم في محافظة لينينغراد.

صحيح أن أسلوب بوتين مستبد، إلا أن اعتبار رجال النخبة الحاكمة الروسية ضحايا حقوق الإنسان مبالغة بالتأكيد.

شعبية كبيرة في روسيا

من العوامل الأخرى التي ساهمت في شعبية بوتين موقفه الدولي الأكثر حزماً الذي أعربت روسيا من خلاله عن استقلالها في وجه المعارضة الأميركية والغربية (يتجلى هذا الموقف اليوم في الأزمة في سورية، أحد حلفاء روسيا القدماء), فضلاً عن سياسته الاقتصادية الناجحة نسبيّاً التي أدت إلى فترة من النمو، تراجع البطالة، وزيادة الأجور الفعلية. وقد حُققت هذه الإنجازات أحياناً بتدخل الدولة في الاقتصاد، مثل تأميم المصانع والصناعات.

من الواضح أن كل هذا لم يحظَ باستحسان الغرب، بما أنه يحدّ من النفوذ الغربي في البلد، يقلص فرص العمل، ويعيد إحياء أشباح العهد السوفياتي، حسبما يُفترض، لكن ردّ فعل الشعب الروسي، باستثناء الطبقة الحاكم الثرية والمثقفين، جاء مؤاتياً، ومع أن شعبية بوتين تتراجع اليوم، إلا أنها لا تزال عالية جدّاً.

يُقال عادةً عن نمط حكم بلد مثل روسيا إن الفوضى تدب، إذا كان المحور المركزي ضعيفاً، في المقابل، إن كان المحور المركزي قويّاً، يبرز الطغيان وبناء الدولة، ويبدو أن روسيا عموماً تفضل الحالة الثانية على الأولى، ورغم ذلك، لا يُعتبر بوتين طاغية.

لا تزال روسيا تتمتع بحريات كثيرة، رغم شوائب ديمقراطيتها، لكن أبرز العوامل المهمة التي لا تزال تفتقر إليها لتهرب من هذه الدوامة التاريخية تشمل حكم القانون الفعلي، فلم يسبق أن تمتعت روسيا بهذه الميزة، وبدا بوتين في مرحلة ما أنه يسعى إلى بنائه، لكن هذا المشروع توقف على ما يبدو، وهذا مقلق بالتأكيد.

رغم ذلك، كان حكمه المستبد موجّهاً نحو بناء دولة قوية، لا من حطام العهد السوفياتي فحسب، بل أيضاً من انحلال السلطة المركزية وانهيار الاقتصاد خلال عهد يلتسين، ولا شك أن مخاطر المبالغة في تقوية السلطة المركزية تبدو واضحة، ولا تزال هذه المسيرة بعيدة كل البعد عن خواتمها، ومن الضروري مراقبة الوضع بدقة، ولكن علينا أخذ التعقيدات التي يتعاطى معها بوتين في الاعتبار.

Christopher Read