منذ أعوام قليلة تحدثت إليَ نجمة سينمائية معروفة تربطني بها علاقة صداقة واحترام، وأبلغتني هاتفياً أنها اختيرت من أحد المهرجانات السينمائية العربية المعروفة لعضوية لجنة تحكيم دورته المقبلة، ولما كانت التجربة الأولى لها في هذا الصدد، طلبت مني أن نلتقي سوياً لتسألني عن الخطوات التي ينبغي عليها أن تلتزم بها أثناء عملها في اللجنة.

Ad

في المقابلة الودية التي جرت بيننا دعوتها أن تستجيب لمنطق الأمور، وألا تسعى إلى تغليب الاعتبارات العاطفية أو السياسية، وأن تنحاز إلى المعايير الفنية، وتقرأ الفيلم السينمائي من داخله من دون النظر إلى اعتبارات أخرى من خارجه، وأن تتوخى ضبط النفس، وألا تنجرف وراء أي محاولة لجرّها إلى مهاترات جانبية بعيداً عن الهدف من وجودها في اللجنة على رأسها إثارة النعرات الوطنية، وأن تتعامل بموضوعية مع الرأي الآخر داخل اللجنة، وأن تستمع إلى الآراء المختلفة من دون تأفف أو تبرّم، وتنحاز إلى الأفلام التي تتسم بتنوع يميز المجتمعات التي تمثلها، بكل ما فيها من أعراق وثقافات ومعتقدات، وما تنطوي عليه من قيم وخصوصيات.

 قلت لها، أيضاً، أن تلتزم أقصى درجات الموضوعية والمسؤولية، وأن تنطلق مواقفها من معيار الاتزان الأكاديمي، وأن تستبعد كل ما هو شخصي أو عاطفي، وتنصاع إلى وجهة النظر الصائبة التي تُعلي من شأن الأفلام الجيدة، وتتجاهل الأفلام الرديئة، وألا تدخل الجلسة بوجهة نظر مُسبقة تعتنقها وتتحكم بآرائها.

 والأهم أن تنأى بنفسها عن ارتكاب الخطأ الشائع الذي يقع فيه كثر من أعضاء لجان التحكيم، عندما يتخيل الواحد منهم أن مهمته محصورة في الانحياز إلى الفيلم الذي يمثل بلده في المسابقة، والدفاع عنه باستماتة، حتى لو كان مستواه لا يرقى إلى الفوز بأي جائزة أو حتى شهادة تقدير متواضعة!

كنت مدفوعاً في رأيي هذا بسوابق كثيرة لنجوم مصريين تصوروا أن وجودهم في لجنة التحكيم يعني أنهم في مهمة وطنية لنصرة الوطن، وتجاهلوا أن الفن لا وطن له، فتخلوا عن نزاهتهم وموضوعيتهم، فضلاً عن حياديتهم، وانبروا للدفاع عن الفيلم المصري المشارك في المسابقة، ودخلوا في معارك ضارية لانتزاع جائزة يعلمون قبل غيرهم أنه لا يستحقها لكنها «الشوفينية»، المغالاة في التعصب للوطن، التي تملكتهم، وأنستهم الحكمة البليغة التي تقول إن «الفن لا جنسية له»!

أعرف نجمة معروفة عادت إلى مصر عقب مشاركتها في لجنة تحكيم أحد المهرجانات العربية، وفور أن غادرت أرض المطار ملأت الدنيا تصريحات إعلامية بأنها «كافحت» و»استماتت» في الدفاع عن الفيلم المصري المشارك في المسابقة الرسمية، حتى نجحت في استمالة أعضاء لجنة التحكيم وأقنعتهم بمنحه جائزة، وشككت من دون أن تدري بأحقية فوزه بالجائزة، عندما قالت إنها وافقت على تمرير جوائز أخرى لأفلام منافسة مقابل أن تضمن أصوات بقية أعضاء اللجنة على منح الفيلم المصري جائزة!

كانت النجمة مدفوعة في موقفها الجاهل الذي لا يستقيم ومعايير النزاهة والموضوعية، بفهمها القاصر للحديث الشريف «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، لكنها لم تدر أن الصحابة الذين استمعوا للحديث راجعوا الرسول (صلي الله عليه وسلم) قائلين: «كيف ننصره ظالماً؟» فقال (ص): «أن نكفه عن الظلم»، وهو ما كان يستوجب عليها أن تدركه، فلا تنحاز إلى فيلم سيئ لم تتوافر فيه مقومات العمل الفني الجيد، لمجرد أنه يحمل جنسية بلدها، وتتجاهل، عن عمد، أن أصحابه ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا لجنة التحكيم التي تابعت الفيلم، ورأت أن تعاقبه بحرمانه من جائزة قد تشجع صانعيه على استمراء الخطأ!

اللافت أن النجمة الشهيرة لم تكن الوحيدة التي تعاملت بهذه «الشوفينية» المرضية، بل سبقها إلى ذلك نجوم كثُر فهموا خطأ أن وجودهم في لجان التحكيم يعني أنهم في معركة حياة أو موت، وأن عودتهم إلى أرض الوطن من دون جائزة للفيلم المصري يمثل «وصمة عار» على جبينهم «لن يمحوها الزمن ولا الإعلام»، وأن قطيعة وشيكة ستعرف طريقها إلى العلاقة بينهم وبين نجم الفيلم المشارك في المهرجان الذي سيظن أنهم امتنعوا عن دعمه، كما حدث عندما اتهم عادل إمام زميله نور الشريف الذي كان عضو لجنة تحكيم «أيام قرطاج السينمائية» عام 1984، بأنه كان السبب في حرمانه من جائزة أفضل ممثل عن فيلم «حتى لا يطير الدخان»، واختار أن تذهب إلى زميله يحيى الفخراني عن «خرج ولم يعد»، ولم تشفع محاولات الشريف اليائسة لتبرئة نفسه، ودامت القطيعة بينهما سنوات طويلة!