«أكتوبر» مجيدة وستبقى مجيدة
على حلقتين بثت فضائية "العربية" فيلماً عن حرب السادس من أكتوبر 1973 في ذكراها الأربعين من إعداد فرنسيٍّ، والأهم في هذا "الفيلم" المستند إلى وثائق إسرائيلية ومصرية وأميركية، أنه أثبت صحة ما كان قاله الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، رحمه الله الرحمة الواسعة، وهو أن التدخل الأميركي بطوفان من الأسلحة المتقدمة والذخائر وبالمعلومات الاستخبارية هو الذي أحدث خللاً في موازين القوى العسكرية لمصلحة إسرائيل في لحظة حاسمة بالفعل كانت فيها القوات المسلحة المصرية تستعد لقفزة ثانية في اتجاه الممرات في عمق شبه جزيرة سيناء بعد اجتياح خط بارليف والعبور إلى الضفة الشرقية من قناة السويس.ولعل من المفترض أن الذين عاشوا تلك المرحلة الفاصلة يذكرون كيف أنَّ كل المفلسين، أحزاباً وتنظيمات ودولاً، وجميعهم شكلوا لاحقاً "جبهة الرفض" السيئة الصيت والسمعة وبعد ذلك "جبهة الصمود والتصدي" التي لم تصمد ولم تتصد، قد صبُّوا جام غضبهم على السادات وأشبعوه سبَّاً وشتائم واتهامات، لأنه عندما اضطر إلى وقف إطلاق النار، بعد الخرق الذي أحدثه الإسرائيليون بقيادة ارييل شارون ووصلوا ببعض دباباتهم إلى الضفة الغربية لقناة السويس، أعلن بكل شجاعة وجرأة: "إنني لا أستطيع محاربة أميركا"... وبالفعل لم يكن يستطيع لا هو ولا كل العرب محاربة أميركا التي انضمت الى حرب أكتوبر في اللحظة الحرجة وحاربت كأنها تدافع عن نيويورك وواشنطن، لا عن تل أبيب وعمق الدولة الإسرائيلية.
هذه هي المسألة الأولى، أما المسألة الثانية فهي أن تزوير الحقائق في تلك الفترة الذي ساهمت فيه دول "الصمود والتصدي" التي يشكل فسطاط "الممانعة والمقاومة" أنموذجاً "كاريكاتورياً" ومسْخاً لها الآن، قد تحدث عن أن الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي هو صاحب خطة "العبور"، كان يصر على مواصلة القتال، والحقيقة، حسب هذا "الفيلم" الآنف الذكر وحسب معلومات قيلت وقتها، وقالها الفريق الشاذلي نفسه مشافهة ومكتوبة، أن هذه الصورة التي رسمتها المجموعات التي كان يصفها (أبو عبار) بـ"جماعات التحشيش الفكري" كانت مقلوبة تماماً، فالسادات ومعه وزير الدفاع وباقي جنرالات الجيش المصري كانوا يصرون على القفزة الثانية ومتابعة القتال، بينما كان الشاذلي ضد ذلك، وأيضاً كان ضد قرار رفض وقف إطلاق النار الذي جاء بعده مباشرة اندفاع هنري كيسنجر العاجل إلى تلبية كل طلبات غولدا مائير وأكثر، فكان ذلك التحول الهائل في سير القتال الذي أضعف الجانب المصري في معركة المفاوضات السياسية اللاحقة التي انتهت في كل الأحوال بإخراج الاحتلال الإسرائيلي كاملاً من كل الأراضي المصرية المحتلة. نعم... لقد أصيبت غولدا مائير بالانهيار وأصيب معها وزير الدفاع موشيه دايان وكبار الجنرالات الإسرائيليين في اللحظات الأولى بعد اندلاع الحرب التي لم يكونوا يتوقعونها، رغم المعلومات التجسسية التي كان يزودهم بها أشرف مروان صهر الرئيس جمال عبدالناصر والذي كان قد احتل مواقع متعددة في غاية الأهمية، لكن كل هذا ما لبث أن تحول إلى هجوم معاكس سريع بعدما بادر الأميركيون، بعد رفض السادات لدعوة وقف إطلاق النار، إلى دخول المعركة بكل ثقلهم وبكل إمكانياتهم وبكل أقمارهم الاصطناعية ومعلوماتهم الاستخبارية، فكان ما كان، لكن المصريين، رغم ذلك، استطاعوا تحرير آخر ذرة من رمل سيناء التي يقاتل فيها الآن الجيش المصري الباسل الزمر الإرهابية المعروفة الولاء والأهداف والانتماء.إنَّ السادات عندما بادر إلى قفزة "العبور" لم يدَّعِ أنَّ هدفه هو تحرير فلسطين كلها، وأنه سيزيل إسرائيل من الوجود ويرميها في البحر... لقد كان هدفه المعلن، الذي قاله على رؤوس الأشهاد قبل تلك الحرب وخلالها وبعدها، تحرير سيناء على اعتبار أن تحريرها يسترجع كرامة المصريين المشروخة ويعزز نضال ثورة الشعب الفلسطيني لتحرير ما اغتصب من وطنه في يونيو الكارثة عام 1967، ولذلك فإنه لم يكن يريد الذهاب إلى مفاوضات كامب ديفيد منفرداً لو لم يحاصره عرب "الصمود والتصدي" والرفض! بالمزايدات وبـ"التشبيح" وحالوا دون مشاركة الفلسطينيين في تلك المفاوضات، كل هذا بهدف إخراجه "من المولد بلا حمص" وتحويله من منتصرٍ إلى مهزوم ليصبح مصير سيناء كمصير هضبة الجولان التي لا تزال تنتظر منذ نحو ستة وأربعين عاماً فيالق الزحف اللجب التي لم تصل حتى الآن.إنه من الواجب وبعد أربعين عاماً أن نكون منصفين ونحن نتحدث عن حرب أكتوبر العظيمة حقاً وفعلاً، وعن الرئيس أنور السادات الذي ستثبت الأيام، رغم مرور كل هذه الفترة الطويلة، أنَّ اغتياله في الذكرى الثامنة لهذه الحرب كان بمنزلة تصفية حسابات من قبل الإسرائيليين الذين لم "تنشلع" قلوبهم ولم يشعروا بضياع حلمهم التاريخي إلا في تلك اللحظة التي علموا فيها باجتياح الدبابات المصرية لـ"خط بارليف" والتي أحسوا فيها باحتمال زوال دولتهم... ولهذا فإن كل الذين ألصقوا بهذا الرجل تهم "الخيانة" إنما كانوا وما زالوا يصبون الحَب في الطاحونة الإسرائيلية، فإسرائيل هي الوحيدة المستفيدة من هذه الاتهامات التي لاحقوا بمثلها وأسوأ منها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) الذي كان قَبِِل "أوسلو" في ظل أوضاع بدايات تسعينيات القرن الماضي لأن بديلها كان التشظي والانهيار، والوقوع مجدداً في قبضة "الممانعة والمقاومة" التي كان هرب منها بقرار الشعب الفلسطيني الوطني إلى تونس بعد صمود، بلا أي معين، استمر ثلاثة أشهر متلاحقة في بيروت المحاصرة بحراً وبراً وجواً.