علينا أن نقر بما يظهر جلياً: يُعتبر باراك أوباما الرئيس الأكثر معاداة للسياسة بين أولئك الذين قادوا الولايات المتحدة منذ عهد ما بعد الحرب. فترومان، وأيزنهاور، وكينيدي، وجونسون، ونيكسون، وفورد، (حتى) كارتر، وريغان، وبوش الأب، وكلينتون، وبوش الابن مارسوا كلهم السياسة وسط التجاذبات الواضحة بين الكونغرس والرئاسة، هذه التجاذبات التي أدرجها الآباء المؤسسون في النظام الأميركي، لكن الوضع مغاير مع باراك أوباما. أخبرنا أوباما أنه سيكون مختلفاً، وهو كذلك بالتأكيد.
لا يمارس أوباما سياسات واشنطن، ويذكر أنصاره، الذين خاب أملهم، أن هذا يعود إلى "سلبيته"، لكننا بذلك نقلل من شأنه، فيعتقد أوباما أن شؤون الدولة ما هي إلا وظيفة لما يدور في ذهنه.لكن بعض المسائل تبقى في ذهنه، مثل الفوائد الاقتصادية للإنفاق المخصص للبنية التحتية العامة، هذه الفوائد التي وردت مرة أخرى في خطاب ألقاه يوم الاثنين بعد الاعتداء على مقر البحرية، تناول هذا الخطاب دروساً عن الأزمة المالية وواجب الكونغرس الوقوف إلى جانب الرئيس، إلا أن بعض المسائل الأخرى تدخل ذهنه ثم تختفي، مثل الخطوط الحمراء في الرمال السورية.يعتبر أوباما أن من واجب العالم السياسي في الخارج تعديل مساره ومماشاة مدار الفكر الرئاسي، أما مَن لا يعدلون مسارهم، فيُضطرون إلى مواجهة الرئيس نفسه، فيتعرضون لهجوم علني إلى أن يصبحوا ضعفاء سياسياً وعاجزين عن معارضة ما يدور في ذهنه.ينفرد أوباما بطريقة العمل هذه، ويعتبر مؤرخو رئاسة أوباما أن شهر سبتمبر الماضي يشكل حالة مميزة في طريقة عمل الرئيس الرابع والأربعين تستحق التوقف عندها.في مطلع شهر سبتمبر، فاجأ الرئيس أوباما واشنطن بإعلانه أنه سيطلب من الكونغرس التصويت على دعم عمل عسكري ضد بشار الأسد في سورية. جاءت هذه الخطوة بعد اضمحلال الخط الأحمر. وفي تقرير عن هذا القرار، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن أوباما، بعد حديث مع رئيس فريق عمله دام 45 دقيقة، أخبر سائر أعضاء الفريق: "لدي فكرة مهمة أود أن أوضحها لكم".وبعد لقاء مع الرئيس، عبر سياسيان بارزان في واشنطن عن دعمهما خطة الرئيس المعلنة بشأن التعامل مع الأسد، ألا وهما رئيس مجلس النواب جون بونر وزعيم الأكثرية إريك كانتور.بما أن قرار الرئيس التدخل في سورية لم يلقَ تأييداً كبيراً من الشعب الأميركي وأعضاء الكونغرس، اعتُبر التزام بونر-كانتور هذا بالغ الأهمية. كان إعلاناً عاماً عن دعم سياسي في لحظة بدا فيها الرئيس بأمس الحاجة إلى كل الدعم السياسي الذي يستطيع الحصول عليه.لكن بعد أسبوع ونصف الأسبوع تقريباً، بدَّل أوباما موقفه، فما عاد يحتاج إلى موافقة الكونغرس، وبدلاً من ذلك، خطر على باله أنه يستطيع التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتوصل إلى اتفاق لخفض الأسلحة الكيماوية السورية، وإذا وضعنا جانبا مزاياً هذا القرار، يذكر جوناثان كارل من محطة ABC أن البيت الأبيض لم يُعلم بونر وكانتور مسبقا بشأن هذه الاستدارة نحو روسيا.اختر عشوائياً أياً من الرؤساء الأميركيين الأحد عشر في مرحلة ما بعد الحرب، هل كان أحدهم سيُعامل رئيس مجلس النواب بهذه الطريقة قبل أن يحاول التفاوض معه بشأن تمويل الحكومة، أو رفع سقف الدين، أو مستقبل إرثه، أو مشروع الرعاية الصحية الذي وضعه أوباما؟ هذا ما قام به أوباما بالتحديد، ولكن لا مشكلة!يوم الاثنين الماضي، أدلى أوباما بما دعاه البيت الأبيض "ملاحظات الرئيس في ذكرى مرور خمس سنوات على الأزمة المالية". وبعد أن تناول إطلاق النار في مقر البحرية ومن ثم الأزمة المالية عام 2008، أمضى أوباما الجزء الأكبر من خطابه الذي تألف من نحو 4 آلاف كلمة، في انتقاد الجمهوريين في الكونغرس.عليك أن تقرأ هذا الخطاب لتفهم ما أقصده، ولكن يشكل المقطع التالي مثالاً تقليدياً لسياسات أوباما المناهضة للسياسة: "المشكلة اليوم أن الجمهوريين في الكونغرس لا يركزون على كيفية تنمية الاقتصاد وبناء الطبقة الوسطى. أقول (اليوم) لأنني ما زلت آمل أن تضيء فكرة هنا في رؤوسهم" (يضحك "الممثلون" المدعوون).مأزق كبير؟ يستهلك أوباما كل الأكسجين السياسي في المدينة،وتكثر الأمثلة. "في المرة الأخيرة التي هدد فيها الطاقم ذاته مسار العمل...". الطاقم ذاته؟ نحصل على مفردات رئاسية عصرية جديدة، على ما يبدو."... هم مستعدون لإفشال الاقتصاد برمته". "هل هم مستعدون حقاً لإيذاء الشعب بهدف تسجيل النقاط السياسية فحسب؟". "لم يقدم قادة الحزب الجمهوري أفكاراً جدية" بشأن المخصصات. و: "قدمت أفكاراً بشأن الإصلاح الضريبي، إلا أنني لم أحصل على ردهم بعد". وكما هي الحال مع كل المسائل الأخرى هنا، يدرك الجميع في واشنطن أن ذلك التصريح بشأن الضرائب غير صحيح، ولكن في كارثة ما بعد السياسة التي تسبب فيها أوباما، هل يشكل ذلك أي فارق؟أعلن أوباما مرتَين: "لن أفاوض"، لكنه يفاوض مع فلاديمير بوتين بشأن مسألة أكثر صعوبة من عقد صفقة مع جون بونر بشأن الدين.لا بد من أن يشمل كل عهد رئاسي بعض عناصر السياسة الطبيعية. لكن عهد أوباما الرئاسي تخطى طوال السنوات الخمس الماضية كل التقاليد السياسية الأميركية، وهكذا تتلخص طريقة عمل أوباما بما يلي: أنا أفكر، إذن أنت تفكر أيضاً، ولا شك في كل مَن لا يزالون يمارسون السياسية الحقيقية من كلا الطرفين يقفون مذهولين.Daniel Henninger
مقالات
طريقة عمل أوباما... أنا أفكر إذن أنت تفكر أيضاً!
24-09-2013