إن الجدال الدائر في الآونة الأخيرة حول أخطاء ارتكبها في ورقة بحثية الخبيران الاقتصاديان كارمن راينهارت وكينيث روغوف يمثل تعقيباً حزيناً على مطالب دورة إخبارية لا تنقطع والأجواء السامة سياسياً التي تحيط بالسياسة المالية في الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان.

Ad

ففي بحثهما بعنوان "النمو في زمن الديون"، قَدَّر روغوف وراينهارت انخفاضات كبيرة في النمو مرتبطة بنسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي التي تتجاوز 90%، ولكن البحث تضمن عدة أخطاء في تدوين الرموز والتي اكتشفها طالب دراسات عليا في جامعة ماساتشوستس. وبعد تصحيح الأخطاء، أصبح التأثير أقل إلى حد كبير، ولكنه رغم ذلك ظل كبيراً على المستوى الاقتصادي.

الواقع أن ورقة راينهارت-روغوف البحثية مجرد جزء صغير من كم ضخم من المؤلفات الأكاديمية التي تظهر مستويات دين مرتفعة إلى حد يجعلها خطيرة من الناحية الاقتصادية. والسؤال الأكثر جوهرية يتعلق بالسببية: فمن المؤكد أن حالة الاقتصاد تؤثر في الوضع المالي، تماماً كما قد تؤثر الضرائب، والإنفاق، والعجز، والديون في النمو الاقتصادي.

والأخطاء البحثية في الاقتصاد ليست نادرة، ولكنها تكتشف عادة في مرحلة مبكرة، كما حدث لي ذات مرة في مسودة مشروع للنشر. وأحياناً لا تكتشف الأخطاء حتى وقت لاحق، عندما تتحول إلى أوراق بحثية عاملة، كما حدث مع راينهارت وروغوف، أو بعد النشر، كما حدث مع كين آرو الحائز جائزة نوبل، الذي اضطر إلى تصحيح الخطأ في الدليل الذي ساقه على صحة "نظرية الاستحالة" الشهيرة.

إن أهل الاقتصاد يستخدمون أساليب مختلفة لتحليل القضايا المالية: نماذج تحليلية مصممة وفقاً لأساليب معينة؛ ونماذج قياسية للاقتصاد الكلي مكيفة وفقاً لبيانات كلية، كتلك التي يستخدمها بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، والبنك المركزي الأوروبي، ومكتب الموازنة في الكونغرس الأميركي؛ وتخمينات تجريبية لمعايير أساسية، مثل مضاعفات الإنفاق؛ والاستعانة بالإحصاءات القديمة؛ والدراسات التاريخية. وكل من هذه الأساليب يشتمل على مواطن قوة ونقاط ضعف، ولا يعتمد خبراء الاقتصاد وصناع السياسات الجادون بشكل كامل على دراسة منفردة؛ بل إنهم يقيمون أحكامهم على أدلة متكاملة متتامة.

وبالتالي، فلا يوجد عذر يبرر هذا الغضب، والمزاعم المبالغ فيها حول التأثير الذي قد يخلفه بحث واحد، ومحاولة استخدام الخطأ للتشكيك في مخاوف مشروعة بشأن المستويات المرتفعة من الديون (ناهيك عن تشويه سمعة الباحثين).

رغم أن العجز الضخم يكون غير مرغوب فيه عادة، فإنه قد يكون في بعض الأحيان حميداً أو حتى مرغوبا، مثل حالات الركود، أو في زمن الحرب، أو عندما يستخدم لتمويل استثمارات عامة إنتاجية. في الأوقات العادية، يزاحم العجز الاستثمار الخاص (وربما يساعد في حشد المدخرات الخاصة ورأس المال الأجنبي)، وبالتالي الحد من النمو في المستقبل. وعلى النقيض من هذا، ففي حالات الركود العميق الطويل الأمد، وعندما تكون أسعار فائدة البنك المركزي عند حد الصفر الأدنى، فإن الاستجابة المتعقلة الجيدة التوقيت قد تكون مفيدة من حيث المبدأ.

بيد أن العملية السياسة قد تولد استجابات سيئة التوقيت أو غير فعّالة- تركز على التحويلات بدلاً من المشتريات، والحسومات الضريبية دون الهامشية، والإنفاق الذي يفشل في اجتياز اختبارات الجدوى نسبة إلى التكاليف، ولا تعود إلا بقدر ضئيل من الفائدة في الأمد القريب وتحدث أضراراً كبيرة في وقت لاحق. على سبيل المثال، لم تنجح حوافز عام 2008 في أميركا في زحزحة الاستهلاك إلى الأعلى إلا بصعوبة، وتكلفت الحوافز المالية في عام 2009 مئات الآلاف من الدولارات لكل وظيفة؛ أعلى بعدة مرات من الأجر المتوسط.

ويتعين علينا أن نتبنى سياسات تعود بالنفع على الاقتصاد في الأمد القريب بتكاليف معقولة في الأمد البعيد، وأن نرفض السياسات التي لا تحقق هذه الغاية. وقد يبدو هذا بسيطا، ولكنها في واقع الأمر عقبة أعلى كثيراً مما حدده الساسة في أوروبا والولايات المتحدة لأنفسهم في الأعوام الأخيرة.

كان تقديري أن تأثير الزيادة الأخيرة والمتوقعة في الديون على الناتج المحلي الإجمالي الأميركي (حيث يلوح النمو الانفجاري للإنفاق العام على معاشات التقاعد والرعاية الصحية ضخما)، باستخدام أربعة تقديرات بديلة لتأثير الدين في النمو: تقدير أقل في بحث أحدث صادر عن راينهارت-روغوف؛ ودراسة مستخدمة على نطاق واسع لصندوق النقد الدولي، والتي تستنتج تأثيراً أكبر (وتتعامل مع مشكلة السببية العكسية المحتملة)؛ ودراسة ذات صلة صادرة عن مكتب الموازنة في الكونغرس الأميركي؛ ووظيفة إنتاج بسيطة حيث يزاحم الدين الحكومي رأس المال الملموس. وكانت النتائج متماثلة إلى حد كبير: فما لم تخضع تكاليف الاستحقاق للسيطرة، فإن الارتفاع الناتج في الديون كفيل بخفض مستويات المعيشة في الولايات المتحدة بنحو 20% على مدى جيل واحد.

وتظهر الأدلة الإحصائية المؤيدة أن ارتفاع العجز والديون يؤدي إلى زيادة أسعار الفائدة الطويلة الأجل. ويكون التأثير أعظم عندما يتم تجاوز مستويات متواضعة من العجز والدين ويكون عجز الحساب الجاري كبيراً، ومن المرجح أن تؤدي أسعار الفائدة المتزايدة إلى إعاقة الاستثمار الخاص، وهو ما من شأنه أن يخفض من معدلات نمو تشغيل العمالة والأجور في المستقبل.

وتظهر دراسات متعددة أن "مضاعفات" الإنفاق الحكومي، حتى عندما تكون أكبر من حد الصفر الأدنى، تتقلص بسرعة، ثم تتحول إلى الاتجاه السلبي، بل قد تصبح سلبية أثناء التوسعات الاقتصادية وعندما تتوقع الأسر ضرائب أعلى بعد فترة حد الصفر الأدنى. وقد أثبتت التخفيضات الضريبية الدائمة وتلك المفروضة على المعدلات الهامشية أنها أكثر ميلاً إلى زيادة النمو مقارنة بالزيادات في الإنفاق أو الحسومات الضريبية دون الهامشية؛ كما أكد تقليص العجز والديون الناجح على خفض الإنفاق وليس الزيادات الضريبية الحادة بنسبة خمسة أو ستة إلى واحد؛ وكانت التخفيضات في الإنفاق أقل ميلاً من الزيادات الضريبية إلى إحداث الركود في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

ويرى البعض أن تقليص العجز المالي والديون من خلال التخفيضات الدائمة في الإنفاق قد يكون توسعياً بالنسبة إلى الدول المثقلة بالديون، كما حدث في بعض الحالات التاريخية، ويزعم آخرون أن الزيادة المؤقتة في الإنفاق الآن تؤدي إلى دعم النمو. وقد يكون كل من الاحتمالين توسعيا، أو لا يكون، اعتماداً على التفاصيل والظروف. ولأن العديد من الدول لجأت إلى تقليص العجز والديون في نفس الوقت، فإن أسعار الفائدة منخفضة بالفعل؛ وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي تمثل أكثر من 30% من الاقتصاد العالمي والتي تصدر العملة الاحتياطية العالمية، فإن الحذر في التعميم قياساً على حالات مالية أخرى أمر مستحسن للغاية.

ورغم هذا فإن الأدلة تشير بوضوح إلى أن ارتفاع نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي يؤدي في نهاية المطاف إلى تعويق النمو في الأمد البعيد؛ ولابد من ضبط الأوضاع المالية وتقليص العجز والديون تدريجياً مع تعافي الاقتصاد؛ ولا بد أن يكون تقليص العجز والديون على جانب الإنفاق في الميزانية في المقام الأول. وأخيرا، فإن الفكرة التي توحي بأننا قادرون على الانتظار لعشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً قبل أن نبدأ بالتعامل مع العجز والدين، مجرد تصور غير مسؤول على الإطلاق كما اقترح الخبير الاقتصادي بول كروغمان.

* مايكل ج. بوسكين | Michael J. Boskin ، أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد، وكبير زملاء معهد هووفر، وكان رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس جورج بوش الأب في الفترة 1989-1993.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»