في الذكرى 130 لولادة فرانز كافكا، احتفلت به وسائل الإعلام على أكمل وجه. ما زالت الأسئلة تطرح حول لغزه وأعماله التي تخطَّت حدود الأدب، التي يمكن وصفها بـ{المقدسات» الثقافية، إذ يتصرف كثيرون مع مضمونها كأنها كتاب مقدس يوجه الكتّاب والشعراء نحو طريق الابداع، بل مغزى الحياة ومعانيها وسوداويتها. في الذكرى 130 لولادة كافكا، لم تنته الأسئلة حول سيرته وكابوسيته ويهوديته وشعره وسرياليته وعبثيته ولغته. وبإزاء هذا كله ثمة فكرة لامعة ينبغي التطرق إليها وهي علاقة كافكا بالحرق، سواء في وصيته أو في تعاطي بعض الأنظمة مع كتبه وصولاً إلى بعض الكتابات حوله.

Ad

كافكا الذي كتب في وصيته لصديقه ماكس برود داعياً إياه إلى: «أن تجمع وتحرق مخطوطاتي ورسائلي ومذكراتي كافة ورسومي وكل ما دوّنته في حياتي، وهذا يعني ما تجده بين أغراضي، وعند الآخرين من  الأهل والأصحاب». فما كان من ماكس برود إلا أن اتصل بأهم دور النشر، بعد أيام قليلة من رحيل كافكا عام 1924، مما أدى إلى صدور رواية «القصر». هذه الرغبة في «إعدام» الكتاب كانت قوية جداً لدى كافكا، خصوصاً في الأيام الأخيرة حين اشتد عليه المرض.  

السؤال: لماذا لم يحرق كافكا نتاجه الأدبي بيده، هل لأنه كان يكبله ويطوّق روحه، أم أنه أراد أن يدخل «الأسطورة» الأدبية ويترك وراءه مفهوم «الكافكولوجيا». الأرجح أن كافكا لم يكن يريد حرق أعماله، وربما لم يقدر على هذا الفعل، لأن الأديب الذي يحرق أعماله، يتصرف كما لو أنه يحرق أولاده، وربما لهذه الأسباب طلب الاستعانة بصديق لتنفيذ هذا المطلب. بالتالي، صارت وصيته المغدورة نوعاً من دعاية مجانية لأعماله الأدبية التي صدرت بعد رحيله.

قصة الحرق لم تقتصر على وصية كافكا، فبعد صدور أعماله، وسيطرة الحزب النازي الهتلري على الحكم في ألمانيا صُودرت كتب كافكا وأحرقت في مارس عام 1933، ضمن حريق الكتب الشهير الذي قام به النظام النازي حينها، لتحرق كتب كافكا إلى جانب كتب ألبرت أينشتاين وكارل ماركس وروزا لوكسمبورغ وغيرهم.

كان إحراق كتب كافكا نوعاً من إحراق لكافكا نفسه وليهوديته وثقافته. لم ترحم النازية أي ثقافة خارج إطار عقليتها العنصرية وعرقها الجرماني، أحرقت كافكا وقتلت كثيراً من أقرانه. ولكن الزمن كان كافياً لينتصر كافكا على من أحرقه، صارت كتبه مثالاً في العالم وتحول كتاب «كفاحي» لهتلر إلى مذمّة لكل من يقرأه.

منع أعماله

قضية كافكا والحرق لم تتوقف على وصيته أو على جرائم النازية بحق كتبه، فثمة بلدان شيوعية منعت أعماله ومنها بلده تشيكوسلوفاكيا، وكتب الفرنسي جورج باتاي مقالاً بعنوان «هل ينبغي إحراق كافكا؟»، قال فيه: «بعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة، بدأت صحيفة  «العمل» الشيوعية الأسبوعية تحقيقاً في موضوع مفاجئ لم يكن متوقعاً. هل ينبغي إحراق كافكا؟ تساءل المحررون. كان السؤال أحد أكثر الأسئلة التي ليست في محلها على الإطلاق نظراً إلى أنه لم يكن مسبوقًا بأي شيء كان من المحتمل أن يمهد أو يؤدي إليه: هل ينبغي إحراق الكتب؟ أو، أي نوع من الكتب يجب أن يحرق؟ مع ذلك ربما كان اختيار المحررين ماكراً ودقيقاً. فمؤلف المحاكمة هو، كما يقولون، «أحد أعظم عباقرة زماننا». ومع ذلك، أثبت عدد كبير من الردود أن الوضوح قد آتى ثماره. بالإضافة إلى ذلك، وحتى قبل أن تتم صياغة كل سؤال أو استنباطه، تلقى التحقيق إجابة حذفها المحررون من النشر، إجابة كافكا نفسه. لأنه على أي حال أثناء حياته، وإلى أن مات، كان كافكا قد تعذب بالرغبة في أن يحرق كتبه.

وسؤال باتاي نفسه كنا قرأناه عنواناً لكتاب الباحثة بديعة أمين، وهذه الأخيرة طرحت قضية بارزة حول كافكا في العالم العربي وعلاقته بالصهيونية، فحال كافكا كحال كثير من الكتاب والمفكرين الذين رحلوا وتركوا من وراءهم منشغلاً بأعمالهم وقد ظل كافكا لغزاً عصياً على الحل بالنسبة إلى الكثيرين الذين تصدوا لدراسة أعماله وحاولوا تحديد هويته وعلاقته باليهود والعرب، خصوصاً في قصته «بنات أوى وعرب». وقد ذهب البعض من هؤلاء إلى أن كتابات كافكا تلتقي مع المقولات الصهيونية وبأن أعماله تحوي رموزاً صهيونية واضحة من هنا جاءت محاولة بديعة أمين التي رأت أن هذا إجحاف بحق كافكا فلا بأس أن يطرح على أنه أديب يهودي، لكنها سعت إلى دراسة أدب كافكا دراسة تحليلية سعياً وراء استجلاء أبرز ما فسر على أنه إشارات ومعان ورموز صهيونية في أدبه وهي تفعل ذلك بوحي من شعورها بخطورة التطوع لضم شخصية أدبية مرموقة إلى صفوف الصهيونية.

من هنا يبدو أن منطق لغة الحرق التي قيلت حول أعمال كافكا لغز آخر، بدأ بوصيته ولم ينته باتهامه بالصهيونية.