بعد ظهر يوم من أيام الأسبوع، أثناء سفري على قطار الدرجة الأولى بين مدريد وبرشلونة، كان هناك راكب واحد فقط يغفو على مقعد من المقاعد الجلدية السوداء، تبين لي في ما بعد أنه كمساري القطار. وعندما تجولت في القطار ونظرت إليه استيقظ فزعاً على الصوت المتطفل الذي أحدثتُه.

Ad

تشهد شبكة خطوط القطارات عالية السرعة في إسبانيا على التطور الدراماتيكى الذي حدث في هذا البلد في العقود الأخيرة، لكن القطارات الفارغة التي تسير بسرعة عالية بين أهم مدينتين في إسبانيا دليل على ضائقة اقتصادية عميقة تعاني منها. والمشكلة في إسبانيا هي مشكلة أيضاً لأوروبا. وجميع عمليات الإنقاذ الأوروبية كانت موجهة حتى الآن نحو بلدان صغيرة نسبياً: اليونان والبرتغال وايرلندا وقبرص. لكن إسبانيا هي أحد أكبر الاقتصادات في أوروبا، والحديث فيها عن عملية إنقاذ محتملة أصبح مرة أخرى أمراً اعتيادياً.

إنقاذ المصارف

الإحصائيات تبعث على الخوف، فنسبة البطالة تبلغ نحو 26 في المئة، وهي بين الشباب تزيد على 50 في المئة. وتشير التوقعات إلى انكماش الاقتصاد مرة أخرى هذا العام بنسبة 1.5 في المئة تقريباً. وكان لابد من إنقاذ المصارف، لكن هناك خوف من أنه إذا استمرت المصارف في الانزلاق نحو الأسفل، فإنها ستواجه صدمة ثانية من الديون المعدومة. والدولة خفضت نفقاتها بصورة حادة وخففت من أنظمة سوق العمل فيها. لكن يبقى العجز في المالية العامة هذه السنة متجهاً نحو حدود 6.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتجه الدين القومي نحو 90 في المئة من هذا الناتج، وهو ما يعتبر في الغالب المستوى الخطر في هذا المجال.

وتشكل الأزمة الاقتصادية هزة بالنسبة لإسبانيا على وجه الخصوص، والسبب يعود إلى أنه بعودة الديمقراطية في نهاية السبعينيات كانت هذه الدولة من أكثر البلدان مدعاة للإثارة والتفاؤل في أوروبا، في الوقت الذي كان فيه البريطانيون والإيطاليون والفرنسيون يعانون إحساسا بالتراجع في بلادهم، بينما كانت إسبانيا تندفع بقوة إلى الأمام. وكان الازدهار يحلق عالياً وإسبانيا تنطلق نحو الريادة العالمية في كرة القدم والأزياء والأطعمة والسينما.

وسبق أن عانت إسبانيا الركود الاقتصادي العميق عدة مرات، حتى في التسعينيات. لكن ما حدث في السابق من تضحيات كان له هدف يتعلق بانضمام إسبانيا إلى الاتحاد الأوروبي ثم إلى منطقة اليورو. ويبدو الفرق هذه المرة هو أن الإسبان أصبحوا غير متأكدين من وجود ضوء في آخر النفق. وبدلاً من ذلك بقي النفق الاقتصادي يزداد طولاً ويصبح أكثر ظلاما، ونتيجة لذلك أخذوا يشعرون بفقدان الثقة بالمؤسسات الوطنية والأوروبية.

وانتشر السخط الشعبي ضد المصارف التي كانت تقرض الناس بصورة طائشة، والتي ركزت على وجه الخصوص على غش الزبائن وباعت الأسهم المفضلة في المصارف إلى مدخرين يفتقرون إلى العمق، ظنوا أنهم يشترون منتجات آمنة، ثم وجدوا أن أموالهم تبددت عند إعادة هيكلة هذه المصارف. وكما حدث في بلدان أخرى، بدا أن كثيرا من المصرفيين المسؤولين عما حدث لايزالون في وضع جيد على نحو غامض.

والسياسيون أيضاً لا يتمتعون بشعبية عميقة، فقد أظهرت استطلاعات أجريت أخيراً أن 96 في المئة من الإسبان يعتقدون أن الفساد السياسي عالٍ جدّاً. ويواجه حزب يمين الوسط الشعبي تهماً بإدارة صندوق سري للرشا. ورئيس الوزراء، ماريانو راخوي، يفتقد سحر الشخصية تماماً، وفكرته عن المؤتمر الصحافي هي استدعاء الصحافيين ثم قراءة بيان لهم من غرفة أخرى، بينما يقوم المراسلون برؤيته على شاشة فيديو وهم صامتون. والمعارضة الاشتراكية غير فعالة وتسجل نتائج متدنية في استطلاعات الرأي. وكان صعود حركة الاحتجاج الشعبية "الإنديغنادوس" قد دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الطاقة السياسية الجديدة ستأتي من الشارع. لكن حركة الإنديغنادوس بلغت الذروة خلال عام، ثم تشتت بعد ذلك.

مستندات رسمية

وحركة الاحتجاج الرئيسية الآن تركز بصورة ضيقة على قيام المصارف بسحب المساكن من العاجزين عن السداد.

ولا يقتصر الازدراء على المصارف والسياسيين فقط، فحتى الملكية وقعت في مرمى النيران. الملك خوان كارلوس الذي كان موضع تبجيل في الماضي لدوره في التحول نحو الديمقراطية كان عليه أن يعتذر بسبب ذهابه في عطلة لصيد الفيلة في أوج أزمة عام 2012. وحياته الشخصية وقعت تحت تحريات قاسية، وحتى ابنته، كريستينا، ورد اسمها في المستندات الرسمية باعتبارها مشبوهة رئيسية في قضية فساد.

وأكبر خسارة في قناعات الإسبان كانت من نصيب المشروع الأوروبي. فقد بدا في العقود الأخيرة أن الاتحاد الأوروبي سيقدم طريقة للخروج من متاهة الفقر النسبي والعزلة والأوتوقراطية. وثقة إسبانيا في أوروبا انعكست في القول المشهور للكاتب خوزيه أورتيغا إي غاسيت: "إسبانيا هي المشكلة وأوروبا هي الحل".

لكن بالنسبة لكثير من الإسبان تبدو أوروبا على أنها جزء كبير من المشكلة. ويتساءل اقتصاديون فيما إذا كانت محنة إسبانيا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعضويتها في منطقة اليورو، التي أشعلت في البداية فتيل انتعاش الائتمان والآن تمنع استعادة القدرة التنافسية من خلال تخفيض قيمة العملة. ويوجه اللوم إلى ألمانيا على نطاق واسع على تشددها في المطالبة بتقشف لا يرحم من أجل إضفاء التوازن على الميزانية الإسبانية، وهي سياسات تخاطر بإحداث كساد يتعمق بصورة مستمرة.

تشاؤم متعاظم

و"الحلم الأوروبي" الذي احتضنه الإسبان وعد بأن يكون لمعظم الناس نمط حياة في مستوى الطبقة الوسطى. لكن مع تراجع الآفاق بتأمين وظائف للشباب والخطر على مستقبل دولة الرعاية الاجتماعية، فإن الخوف الآن هو أن يبدو مستقبل إسبانيا أقرب إلى الأرجنتين منه إلى ألمانيا. وسيتضمن المستقبل الشبيه بالأرجنتين خوفاً مستمراً من حدوث أزمات اقتصادية، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، حيث يتمتع كثيرون بنمط حياة في مستوى بلدان العالم الأول، في وقت تصبح فيه الطبقة الدنيا المتنامية بعيدة عن الازدهار. وفوق كل ذلك، نجد أن الحياة العامة في الأرجنتين تتميز بفلسفة التشكك العميق والسخرية من القادة والمؤسسات الوطنية.

وإسبانيا لم تصل إلى هناك بعد، لكنها تحتاج بصورة ملحة إلى قصة متفائلة لتواجه التشاؤم المتعاظم ومشاعر الاستهزاء بين سكانها. واعتادت إسبانيا أن تبدو كأنها صورة الطفل السعيد على الملصقات التي تبين فوائد الانضمام إلى المشروع الأوروبي، لكنها تخاطر الآن بأن تصبح رمزاً لكل شيء سار بطريقة خاطئة.

(فاينينشال تايمز)