عام 1996 كنت أتابع تصوير فيلم من بطولة النجم نور الشريف بقيادة المخرج سمير سيف، وسجلت في أوراقي أن العنوان الذي اختاره المؤلف طارق عبد الجليل هو {زمن الكلاب}، غير أنني فوجئت بعد انتهاء التصوير، وقبل أيام من إعداد نسخة العرض التجاري، بأن الرقابة اعترضت على العنوان وأصرّت على إضافة حرف {الواو} ليُصبح {الزمن والكلاب}!

Ad

لم يكن بمقدور منتج الفيلم هاني جرجس فوزي ومعه المخرج سمير سيف أن يعترضا على فرمان الرقابة، وإلا صدر قرار بحظر عرض الفيلم، لذا استجابا له وغيّرا العنوان. لكن الدهشة تملّكتني لأن الرقابة لم تلجأ يومها إلى الحل التقليدي الذي اعتدناه في أفلام كثيرة، أي تكتفي بمطالبة أصحابها بأن يُصدروا الفيلم بلوحة: {أحداث الفيلم لا علاقة لها بالواقع، وأي تشابه هو من قبيل المصادفة أو محض خيال ليس أكثر}!

لوحة صارت بمثابة {طوق النجاة} للأفلام التي تتسم بجرأة الطرح، وتتخوف الرقابة من تمريرها كي لا تتُهم بأنها وافقت على عرض أفلام {تحريضية}.

من ثم صارت هذه الصيغة التوافقية محل قبول وارتياح كتّاب ومخرجين ومنتجين كُثر؛ خصوصاً في حقبة الخمسينيات التي شهدت إنجاز المخرج صلاح أبو سيف فيلم {الفتوة} (1957) عن قصة كتبها فريد شوقي ومحمود صبحي الذي شارك في صياغة السيناريو مع السيد بدير ونجيب محفوظ، وفاجأ أبو سيف الجميع بأن صدَر الفيلم بلوحة كتب عليها: {وقعت أحداث القصة أيام كانت فئة قليلة تتحكّم بأرزاق الناس وأقواتهم}، وقيل يومها إنه تخوف من أن يتم تأويل الفيلم على أنه إسقاط على حكم {الضباط الأحرار}.

 لكن المخرج الذي اشتهر بحرصه على ألا يورط نفسه بتبني أفكار تعكس مواقفه السياسية، عاد عام 1986 ليُصدر فيلم {البداية} الذي كتب قصته وشارك في كتابة السيناريو مع لينين الرملي الذي صاغ الحوار، بعبارة: {الفيلم لا صلة له بالواقع بل هو تخريفة من تخريفات المخرجين فإذا لم يعجبكم فأرجو أن تروه مرة ثانية أما إذا أعجبكم فأرجو أن تروه مرة أخرى}، ويومها بدت العبارة كأنها اعتذار من المخرج الكبير عن جرأته وإقدامه على كتابة وإخراج فيلم يُهاجم الدكتاتورية والحكم الشمولي ثم يصفه بأنه {تخريفة}!

في العام نفسه، وفي تطوّر آخر لأشكال التحايل على الرقابة، اختار المخرج عاطف الطيب أن يبدأ {البريء} بلوحة كتب عليها: {وقائع هذا الفيلم لا تمثل الحاضر}، ومع هذا واجه الفيلم أزمة عنيفة انتهت بتشكيل لجنة ضمت وزراء الداخلية والدفاع والثقافة، وقررت حذف مشاهد على رأسها مشهد النهاية.

بعد تلك الواقعة بعامين اختار المخرج رأفت الميهي أن يبدأ فيلم {سمك لبن تمر هندي} (1988) بالبطل محمود عبد العزيز وهو يواجه الكاميرا قائلاً: {قبل ما نبتدي أحب أحذركم إن إحنا ما عندناش حواديت، وما تحاولوش تفهموا أي حاجة لأننا ما بنقصدش أي حاجة}، ثم تلحقه معالي زايد وهي تقول بحسم: {يعني الحكاية تمثيل في تمثيل}.

 وبعده يباغت المخرج يوسف شاهين الذي عُرف بقدرته على مواجهة الرقابة، وتمرير ما يعنّ له من أفكار من دون تقديم أي تنازلات، الجميع، على غير عادته، بتصدير فيلم {المهاجر} (1994) بلوحة كتب فيها: {أحداث الفيلم لا تمت بصلة إلى أية قصة أو حادثة في التاريخ... إنها رواية سينمائية خاصة مستوحاة من تراث الإنسانية}. لكن الرسالة لم تكن موجهة إلى الرقابة هذه المرة، بل إلى جماعات الضغط الديني التي يقودها التيار المتأسلم، بعدما قيل إن {المهاجر} يتناول سيرة النبي {يوسف}.

 سعى شاهين إلى وأد الفتنة في مهدها، بعد صدور حكم قضائي بمنع عرض الفيلم قبل أن ينجح في رفع الحظر، وعودة {المهاجر} إلى الصالات التجارية، بناء على حكم قضائي آخر .

المثير للدهشة أن اللوحة التي كانت في زمن ما وسيلة للخلاص من الملاحقة الرقابية، اختفت مع تنامي مناخ الحرية في المجتمع المصري، وانعكاس ذلك على حرية الفكر والإبداع، لدرجة أن البعض استبدل اللوحة القديمة بلوحة جديدة كتب فيها: {أي تشابه بين الأحداث والشخصيات وما يجري على أرض الواقع هو تشابه مقصود}، وصعّد المخرج أحمد الجندي نبرة التحدي عندما صدَر فيلمه {طير أنت} (2009) من بطولة أحمد مكي بلوحة على الشاشة كتب فيها: ”أي تشابه بين أحداث الفيلم والواقع... مصلحة”!