يقال في الموروث العربي إن "المال يستر رذيلة الأغنياء"، ويروى أن من قال هذه العبارة هو علي رضي الله عنه، لكن هذه المقولة تستلزم منطقاً، وكما هو واضح، أن يحسن الغني التصرف بما لديه من مال وأن يديره بذكاء كي يستر رذائله وعيوبه!

Ad

والواضح أن سلطتنا قد آمنت منذ القديم بهذه المقولة ومارستها بسخاء في كل الاتجاهات، حيث واجهت كل مشاكلها وسترت كل عيوبها ورذائلها بالصرف والإنفاق وشراء الولاءات، ولن أقول الذمم، وذلك على صعيد السياستين الداخلية والخارجية على حد سواء، والحديث هنا ينطبق على حالتها منذ أكثر من ثلاثة عقود، ومن يملك أن يعود إلى تمحيص وفحص سياساتها ومشاريعها داخلياً وخارجياً في شتى المجالات فلن يجد أنها خلال هذه الفترة قد كان لها أي أثر سياسي أو تنموي أو تطويري حقيقي يخرج عن الدائرة المباشرة للصرف بسخاء، بل بتبذير فاحش في كثير من الأحيان.

لم يكن لهذه السلطة أي قيادة أو حتى مشاركة قيادية في صناعة مشاريع دولية أو إقليمية أو حتى محلية بل دارت المسألة دوماً حول المشاركة بالمال والمنح والعطايا والصرف الذي لا يتوقف، وكل الاستثناءات التي قد يجدها الباحث في المسألة ستكون بعينها ذلك الشذوذ الشهير الذي يثبت القاعدة، بل حتى حرب تحرير الكويت لم يكن لسلطتنا مشاركة قيادية فعلية فيها وتلخص دورها في الإنفاق وتغطية تكاليف العملية فحسب، وهي العملية التي يعرف القاصي والداني أنها لم تكن لتحدث بدورها لولا القيمة "النفطية" للكويت آنذاك.

وهذه الجزئية، أعني جزئية النفط، هي التي ستنقلني بدورها إلى الحديث عن النقطة المفصلية لهذا المقال، وهو أن هذا الكيس المليء بالمال، أعني الإيرادات النفطية، والذي كانت تمتد إليه يد السلطة دوماً بلا مراعاة أو حساب ما عاد اليوم يجدي نفعاً كما كان في السابق، ناهيك عن أنه مهدد بالنضوب أصلاً ولكن هذه مصيبة أخرى لها حديث آخر مستحق سبق أن تناولته وغيري مراراً وتكراراً.

مشاكل البلد المتراكمة المتشعبة المعقدة في كل المجالات ما عاد يمكن حلها بأوامر الصرف والإنفاق، فهذه المشاكل التي صارت تمثل في مجموعها أزمة خطيرة توشك أن تسقط البلد بالضربة القاضية قد أضحت بحاجة وبشكل عاجل إلى حلول وخطط ومشاريع تقودها عقول وكفاءات مخلصة، تعمل ليل نهار للعلاج والإصلاح وكأنها في ساحة حرب، وهذا كله غير متاح لأن البلد كان وما زال مختنقاً في أزمة قرار انفردت به السلطة!

خلال هذه العقود الثلاثة الماضية لم تكن أبداً لدينا حكومات متعاقبة مختلفة، حتى يمكن أن نعلق على وزرائها المتنوعين الفشل، بل كانت محصورة في حقيقة الأمر في سلالة واحدة مهما خدعتنا التشكيلات المتعددة، فالقرار المؤثر كان وما زال في يد الأسرة من خلال أبنائها الذين كانوا يتبادلون المواقع المهمة في التشكيلات، وأما الوزراء الآخرون "من الشعب" فلم يكونوا إلا تكملة شكلية للعدد، وكل من تمرد منهم أو حاول التمرد على شكل هذه اللوحة المرسومة سلفاً، كان يجد نفسه خارجها قبل أن يعي حقيقة الأمر!

مشاكل البلد اليوم، وباختصار يا سادتي، أكبر بكثير من قدرة سلطتنا التقليدية على حلها كما كانت تفعل في السابق لأنها باتت أعمق وأكثر تعقيداً من أن تحل بصرف أو تبذير المال فحسب. مشاكل البلد اليوم سياسياً واقتصادياً وتنموياً بحاجة ماسة في المقام الأول إلى عقول وكفاءات متخصصة تمتلك كامل الصلاحيات لاتخاذ القرارات وإدارة الموارد المالية والبشرية المختلفة لمواجهتها، وهو الأمر الذي ترفض هذه السلطة أن تتنازل عنه حتى هذه اللحظة لغير أبناء الأسرة، مصرة بذلك على اتباع أسلوبها القديم، لتقود البلد بذلك في نفق مظلم لا آمن أن في نهايته هاوية!