عودة الحياة إلى متحف راتب صديق في القاهرة
بعد 20 عاماً من تجاهله
أجرى رئيس قطاع الفنون التشكيلية المصرية د. صلاح المليجي جولة ميدانية في متحف راتب صديق، تفقد خلالها الأعمال الإنشائية الجارية، ومراحل استعادة البهاء الإبداعي لمقتنيات الرسام التشكيلي الراحل، بعد تجاهل مشروعه الثقافي طيلة 20 عاماً.
أجرى رئيس قطاع الفنون التشكيلية المصرية د. صلاح المليجي جولة ميدانية في متحف راتب صديق، تفقد خلالها الأعمال الإنشائية الجارية، ومراحل استعادة البهاء الإبداعي لمقتنيات الرسام التشكيلي الراحل، بعد تجاهل مشروعه الثقافي طيلة 20 عاماً.
لفت د. صلاح المليجي إلى أن زيارة متحف راتب صديق جاءت في سياق أعمال قطاع الفنون التشكيلية، لعودة الحياة إلى مواقعه الفنية المغلقة، وفتحها أمام الجمهور في أبهى صورة، واستعادة الزخم الإبداعي لصروح ثقافية، توقفت في الفترة الماضية.وأوضح أن متحف راتب صديق عانى التجاهل منذ تبرع الفنان الراحل بمنزله في حي العمرانية في الجيزة، ليكون متحفاً يضم روائع أعماله الفنية، وتماثيل زوجته الفنانة الراحلة عايدة شحاتة، وظل المكان مغلقاً في السنوات الماضية، ما تسبب في تدهور حالة المبنى، إلا أن مقتنياته محفوظة بحالة جيدة.
وأشار المليجي إلى أن عملية التطوير تسير بخطى أسرع من الجدول الزمني المُحدد، ويأمل الانتهاء من المشروع خلال 11 شهراً، بدأت في 23 مايو الماضي، بهدف إنشاء متحف ومركز ثقافي متكامل، ليكون نافذة للطاقات الخلاقة والمواهب، وإعلاء قيم الوعي بالجمال والإبداع. حرص مصممو المشروع على أن تتناغم تصاميم عمارة المتحف مع البيئة المحيطة، ولجأوا إلى مدرسة المعماري الراحل حسن فتحي، الشهيرة بعمارة البسطاء وهي التي ينتمي إليها منزل الفنان راتب صديق. كذلك استحدثت إنشاءات لتكتمل منظومة المتحف الثقافية، من بينها: إنشاء مركز للورش الفنية، قاعة للعروض الفنية المتغيرة، مسرح مكشوف على غرار الجناح المصري في بينالي البندقية للعمارة 2012، ومكتبة للطفل.جوهر الكلاسيكيةراتب صديق (1917 – 1994) أحد أبرز الرسامين التشكيليين على الساحة الفنية العربية، قاربت إنجازاته الإبداعية المستوى العالمي، وترك إرثاً فنياً، وملمحاً متفرداً لمسيرة عطاء تجاوزت نصف قرن.بدأت رحلته مع الفن التشكيلي في لندن عام 1936، والتحق لأشهر عدة بمدرسة تشيلسي، إلا أنه ضاق ذرعاً باتجاهها الكلاسيكي الراكد فتركها إلى أكاديمية الفنان أميديه أوزنفانت للفنون، ودرس الرسم بقلم الرصاص لعامين ونصف العام، لينطلق إلى فضاء التجديد والابتكار.تتلمذ صديق على أيدي أساتذة كبار أمثال هنري مور وروبرت ميدلي، وتأثر في بداياته بسيزان، ولكنه بحث عن تفرده الإبداعي، ومزج بين طاقة الخيال والواقع المرئي، وأطلق في لوحاته شحنات انفعالية بالغة التوتر والقلق والرغبة في الانفلات إلى فضاءات رحبة.يقول الناقد نبيل فرج: «كان راتب صديق يعتبر أن قوانين الرياضة التي تفرزها الطبيعة وتعالجها مظاهر العالم المادي كافة، هي جوهر الكلاسيكية التي تثري موضوع الفن بالرموز والدلالات».ارتكز إبداع صديق على خصوصية المجتمع العربي عموماً والمصري خصوصاً، وبدت لوحاته وثيقة الصلة بجذوره، ومعبرة عن حنين دائم للعودة إلى الوطن، وتوهج الذاكرة بتفاصيل عالم شديد الثراء والخصوصية، ونبع للتفرد والانطلاق إلى المستوى العالمي.أقام صديق ثلاثة معارض مع زوجته الفنانة التشكيلية الراحلة عايدة شحاتة، ونال جوائز عدة، من بينها: جائزة التفوق في أكاديمية أوزنفانت، ووسام الخدمة الإنساني في فرنسا (1988). رصد صديق خلاصة تجربته الإنسانية والإبداعية في كتابه «رحلة حياة» (1984) بعد مسيرة تشكيلية تجاوزت أربعين عاماً، وحياة فنان قلق، درس الرسم الزيتي وأصبح أستاذاً في هذا المجال، وانتزع شهادة فنانين عالميين، في عصره وبعد رحيله، بتفرده الإبداعي. وعلى رغم الاعتراف العالمي بإبداعه، كان راتب صديق يعتكف في منزله لعدة أشهر، وينعزل عن العالم، ولازمه القلق الفني حتى رحيله، وظل متوهجاً بالأفكار والرؤى والنهم الثقافي للمعرفة والاطلاع على كل جديد في المجال التشكيلي.متحف الشعبيقول الفنان د. أحمد نوار: «أعطانا راتب صديق درساً لما ينبغي أن يكون عليه الفنان الكبير صاحب رسالة، وكيفية تواصل الأجيال في غير صراع أو مزاحمة، ففي العطاء متسع للجميع، أما في الأخذ فما أضيق المسافة التي يقف فوقها المتسابقون». يضيف: «كان أعظم الدروس قبل وفاة راتب صديق، عندما أهدى منزله مع تراث زوجته الفنانة الراحلة عايدة شحاتة إلى وزارة الثقافة المصرية (1993)، ليكون متحفاً للشعب، تحت إشراف قطاع الفنون التشكيلية».وأشار نوار إلى أن الفنان الراحل رصد وديعة مالية ليخصص ريعها كجائزة سنوية للشباب الموهوبين، «إلى هذا الحد كان إيمانه بدور الفنان في مجتمعه، ليس حاضراً فحسب، بل مستقبلاً أيضا، من خلال اكتشاف رواد المستقبل وتبنيهم ورعايتهم».رافد ثقافييثير الاهتمام بمتحف راتب صديق، تساؤلات حول راهن الفعاليات التشكيلية المصرية، وفتح أبواب المتاحف وقاعات المعارض للجمهور، واستعادة التواصل بين الفنان والمتلقي، والتعبير باللوحة والرسم والنحت عن معطيات الفترة الراهنة.الفعاليات التشكيلية المصرية أحد الروافد الثقافية المنفتحة على الإبداع العربي والعالمي، وقد طاولها التوقف خلال الأشهر الماضية، وتسببت الأحداث الأخيرة في ارتباك المشهد، وإغلاق المتاحف والمراكز الفنية أمام الجمهور.وجاء الاهتمام بافتتاح متحف راتب صديق، ليجدد الأمل لدى المبدعين ومحبي الفن التشكيلي بعودة الفعاليات والمعارض والندوات، والثراء الوجداني المنفتح على تراث وعطاء رواد هذا الفن الذي يوثق تاريخاً من الحراك الثقافي، ويحقق تواصل الأجيال الشابة مع إبداعها المتفرد.