الطرح الفكري للإسلام السياسي وبخاصة "الإخوان" وتجربتهم في الحكم والتشريع والاقتصاد والإعلام، كان موضع حوار خصب نظمه "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" حول "مستقبل الثقافة العربية الإسلامية الوسطية"، الذي استقطب نخبة متميزة من الباحثين والمفكرين العرب وغيرهم وجمع غفير من الحضور المثقف الذي ساهم بمداخلاته ونقاشاته في إثراء قضايا المؤتمر الساخنة.
ولعل هذا المؤتمر أهم مؤتمر فكري عام يتم فيه تسليط الأضواء الكاشفة على المرتكزات الأيديولوجية للإسلام السياسي والجماعات الحركية الإسلامية الساعية للسلطة، وأيضاً يقيم ممارستهم وتجربتهم العملية في الحكم بشكل علمي منهجي لا سابق له على الساحة العربية لا على مستوى المؤتمرات ولا على مستوى البرامج الإعلامية، على المستوى التنظيري للجماعات الإسلامية "الإخوان" و"السلف".ساهم عدد من الباحثين منهم د.عمار علي حسن، ود. ثروت الخرباوي ود. أسامة الغزالي حرب ود. فخر أبوعواد ود. محمد الرميحي ود. نبيل عبدالفتاح والصحافي عبدالوهاب بدرخان وباحثون آخرون في عرض وتفكيك المرتكزات الفكرية الأساسية لـ"الإخوان" والإسلام الحركي، وهي تقوم على الدعوة لتكوين جماعة أيديولوجية تؤمن بالفكر الإخواني وتقسم الولاء والطاعة للمرشد العام؛ وذلك تمهيداً لإقامة دولة الإسلام وتمارس "أستاذية العالم"، وكان التساؤل المطروح الذي يشكل تحدياً لهذه الجماعات: ما الذي ستضيفونه إلى إسلامية مجتمعاتنا في حالة وصولكم إلى الحكم؟!ولعلنا نتذكر هنا: رسالة ابن كيران إلى جماعة "الإخوان"، أننا لن نضيف إلى إسلامية مجتمعاتنا شيئاً فمجتمعاتنا مسلمة تتعامل بالإسلام عقيدة وشعائر وأحكاماً، وأن الناس انتخبونا لنحل مشاكلهم لا لنصحح معتقداتهم أو نعلمهم الإسلام أو نفرض الأسلمة على المجتمع.أما على مستوى الممارسة والتجربة العملية لحكم "الإخوان" في السياسة والاقتصاد والإعلام والتشريع، فقد خصصت الجلسة الختامية لأربعة متحدثين لعرض التجربة وتقييمها، فتحدث د. ضياء رشوان، نقيب الصحافيين المصريين، عن تجربة "الإخوان" في الجانب السياسي، وتحدث اللواء سامح سيف اليزل رئيس مركز الجمهورية للدراسات والأبحاث السياسية والأمنية بمصر عن تجربة "الإخوان" الإعلامية، وتحدث د. محمد السمهوري من دولة فلسطين عن الوضع الاقتصادي بمصر وحلل بمنهجية علمية مشروع "النهضة" الإخواني، وكانت ورقتي عن الوضع التشريعي في مصر في عهد "الإخوان".كانت الجلسة الختامية غنية بالحوارات والمداخلات البناءة، ولم تخلُ من الذين التمسوا لـ"الإخوان" أعذاراً ودافعوا عنهم كما في ورقة د. حسن حنفي، المفكر المعروف وفي مداخلاته التي حاول أن يوازن الأمور ملتمساً خيطاً مشتركاً بين الإسلاميين والليبراليين، وكان لوجود د. محمد الأحمدي أبوالنور ممثلاً عن الأزهر ونائباً عن الإمام الأكبر، الأثر الطيب في توضيع ثقافة الوسطية، كما هي ممثلة في المناهج الأزهرية في رجال الأزهر ومؤسساته وجهوده الفكرية، وقد أشاد بدور دولة الإمارات العربية المتحدة في نشر ثقافة الوسطية وترسيخ ثقافة الحوار مجسداً في رعاية أكثر من 70 هيئة مختصة في الدراسات الإسلامية ومراكز البحوث.كانت ورقتي معنية بالإجابة عن سؤالين: لماذا سعى "الإخوان" إلى الاستحواذ على السلطة التشريعية؟ وما خطة "الإخوان" للانفراد بالتشريع؟ فيما يتعلق بالسؤال الأول؛ فـ"الإخوان" مثلهم مثل أي تيار أو حزب أيديولوجي له رؤاه وتصوراته وأيديولوجيته وتوجهاته التي يريد عن طريق الوصول إلى السلطة صبغ المجتمع بها، أي "أسلمة المجتمع" و"أخونة الدولة"، وبطبيعة الحال فإن أهم سلطة يحرص عليها "الإخوان" هي الاستحواذ على "السلطة التشريعية" بل أزعم أن الهيمنة على التشريع أهم من الهيمنة على الرئاسة والحكومة عندهم، ولذلك وجدنا "الإخوان" مبكراً بعد الثورة يسعون بكل جهد ووسائل مشروعة وغير مشروعة مثل تسخير منابر بيوت الله تعالى للدعاية الانتخابية، وعبر كثافة الترشيح في كافة الدوائر، وتقديم الخدمات الاجتماعية ضماناً لفوزهم بالأغلبية، بل وجدنا المرشد عاكف يصرح بأنهم لم يترشحوا للرئاسة ويكفيهم البرلمان، لقد كان همّ "الإخوان" أولاً وأخيراً هو الهيمنة على التشريع، وهنا نأتي لتوضيح لماذا يحظى التشريع بهذه الأهمية لدى "الإخوان" وكافة تيارات الإسلام السياسي؟!لكي نتفهم هذا الأمر فإن علينا أن نسترجع تاريخاً طويلاً من صراع الإسلاميين ضد الدولة الحديثة حول من يملك حق التشريع، وهل من حق الشعب أن يشرع... أو أن التشريع حق خالص لله وحده كما يرى "الحاكميون"؟الإسلاميون يرون أن المشرع هو الله تعالى، وهذا حق، ولكن لا بد للناس مَن ينظم لهم أمورهم عبر تشريعات تحدد علاقات ومسؤوليات، وهنا يتصدى الإسلاميون بقولهم: نحن المختصون بفهم وتفسير التشريع الإلهي نيابة عن المشرع الحقيقي دون الآخرين!وفيما يتعلق بخطة "الإخوان" للانفراد بالتشريع، فهي تقوم على 3 محاور:أولاً، الاستحواذ على البرلمان بمجلسيه الشعب والشورى: عن طريق الحصول على الأغلبية البرلمانية، وهذا ما تحقق بالفعل فقد نجح "الإخوان" في خوض الانتخابات النيابية بكثافة وكانوا الأكثر تنظيماً وتواصلاً في تقديم الخدمات والمعونات للطبقة الفقيرة وضمنوا بذلك الأغلبية.ثانياً، تفصيل دستور جديد وفق مقاسهم: استطاع "الإخوان" عن طريق الأغلبية البرلمانية اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور، وبذلك ضمنوا أيضاً الأغلبية التي تعد الدستور الجديد لمصر، وهكذا استطاعوا أن يعدوا دستوراً أعطى صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية وهمش حقوق الأقليات والنساء، وذلك بأسلوب السلق السريع ودون إتاحة فرصة كافية للشعب للاطلاع على مواد الدستور ومناقشتها عبر الوسائل الإعلامية، والمعروف أن أسلوب العمل في الجمعية التأسيسية للدستور كان محل اعتراض ممثلي الطبقات والطوائف والمصالح المجتمعية، حيث كان يتم بطريقة فرض رأي الأغلبية "الإخوانية" لا عبر التوافق والتفاهم مما أدى إلى انسحابهم جميعاً وبقاء الإسلاميين وحدهم فيها، فتم تمرير الدستور وعرضه للاستفتاء على عجل مما قسم المجتمع المصري إلى مؤيدين ومعارضين محتجين. هكذا هيمن "الإخوان" على الدستور الذي هو أبو التشريعات.ثالثاً، تحييد القضاء أو تحجيمه: لقد تعلم "الإخوان" درس المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب السابق ذي الأغلبية الإخوانية (2012) لعدم دستوريته، وحتى لا يتكرر مثل هذا الأمر، سارع رئيس الجمهورية فور انتهاء الجمعية الرئيسية من الدستور إلى إصدار "إعلان دستوري" استحوذ فيه على كل السلطات، وحصّن نفسه وقراراته من نظر القضاء كما حصّن الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى من الحل، وكان محدداً يوم 2 ديسمبر الماضي جلسة قضائية للنظر في الطعن في الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى فجاء الإعلان الدستوري ليصادر حق القضاء في هذا الأمر.وقام أتباع "الإخوان" بمحاصرة المحكمة الدستورية من كل جانب وإغلاق مداخل الطرق ليمنعوا القضاة من أداء عملهم كما سارعوا إلى تمرير مشروع تعديل السلطة القضائية عبر تخفيض سن التقاعد إلى 60 سنة بهدف التخلص من 4 آلاف قاض، وذلك لإحلال قضاة من الموالين لهم. القضاء المصري اليوم يواجه هجمة شرسة تشكك في أحكامه وتطعن في نزاهته وتهدف إلى إعادة هيكلته بما يضمن سيطرة "الإخوان" عليه، وقد هدد "نادي القضاة" باللجوء إلى الاعتصام في مواجهة مجلس الشورى المصمم على تمرير قانون السلطة القضائية مستهدفاً التدخل في شؤون القضاء.ختاماً: فإن أبرز سمات وخصائص التشريعات "الإخوانية"، كما يرى الخبراء الناقدون: أنها تعصف باستقلال القضاء وتنتهك الحريات وتصنع دكتاتوراً جديداً عبر توسيع صلاحيات الرئيس كما أنها تمنح المؤسسة العسكرية امتيازات غير مسبوقة، إضافة إلى طبيعتها العامة الفضفاضة فيما يتعلق بالحقوق والحريات مما يفتح الباب أمام التأويلات ويثير المخاوف المشروعة. وكما يقول الصحافي عصام عبدالعزيز: عبدالناصر صنع دستوراً يكرس السلطات في يديه فأدى إلى كارثة 1967، والسادات وضع دستوراً منحه سلطات كثيرة فانتهى الأمر إلى الانتفاضة الشعبية ضده 1977 ثم اغتياله، واليوم "الإخوان" صنعوا دستوراً رفضه نصف الشعب وقد يؤدي إلى كوارث.*كاتب قطري
مقالات
الإسلام السياسي على طاولة التشريح الفكري
03-06-2013