من الذاكرة : اليقطينة!
نهض باكراً، ككل يوم، وكان ذلك اليوم ماطراً وبارداً ومن أيام شتاء زمهريره شديد أحرق أهل القرية في الشهرين الأولين منه كل مخزونهم من "حطب البلوط" الذي جمعته النساء من الهضاب والوديان البعيدة، وكنَّ يَعدْنَ به محمولاً على ظهورهن بينما كان الرجال، الذين ودَّعوا الصيف بخريف متقلب مضطرب، يمضون الوقت بـ"التعاليل" المملة المكررة والتحلق حول مواقد النيران المقحمة بـ"دلال" القهوة التي غيَّر الدخان ألوانها وأشكالها، كما غيَّر ألوان وأشكال البيوت المبنية بالحجر والطين والمطلية من الداخل بالنسبة للموسرين بـ"الشيد" الأبيض الذي لم يتحمل هؤلاء الرجال لا مشقة إحضاره من مكانه القصي ولا مشقة جبله وعجنه وتحويله إلى طلاء لجدران المنازل الداخلية. بعد أن تثاءب وهو يحملق في سقف المغارة التاريخية، التي كان يسميها أهل القرية "مغارة الغولة"، مد يده وهو يشعر بخوف شديد إلى فراشه تحت الجزء السفلي من جسمه، فلامست أصابعه رطوبة لزجة اعتادت أن تلامسها في كل صباح من تلك الصباحات الباردة... ثم وبطريقة تلقائية وكما يحدث في كل يوم انتقل بأصابعه من تحت الشق السفلي من جسمه إلى أنفه... وكما في كل صباح أيضاً تسربت الرائحة اللاذعة والعطنة والنفاثة إلى رئتيه فأحس برغبة في التقيؤ واغرورقت عيناه بالدموع وتمتم بكلمات لم يسمعها "المرابعية" الذين كانوا يشاطرونه السكن في "مغارة الغولة" هذه.
كان ذاهباً إلى عام الرجولة، وكان يعتبره أهل القرية مخبولاً ومجنوناً و"أهبل"... كان كثير التلعثم بالكلام... يكرر الكلمة عدة مرات، بينما كانت عيونه تترامش وجبينه يزداد تقطيباً، قبل أن يُطلِقَها ويتخلص منها فتخرج وحيدة لا علاقة لها بالكلمة التي قبلها والكلمة التي بعدها... لقد كانت "لثغته" هذه تُواجَهُ بسخرية الشبان من أهل قريته، وبإثارة القهقهات المفتعلة الصاخبة بالنسبة إلى "المرابعية" والحراثين وبعض الرعاة الذين كانوا يشاطرونه مع أبقارهم وبهائمهم السكن في "مغارة الغولة". أعاد أصابعه إلى الفراش تحت الشق السفلي من جسمه مرة ثانية... لقد خشي النهوض خوفاً من أن يرى بعض من يشاركونه السكن في المغارة البلل الذي كان يراه بعضهم كل صباح فيبتسمون و"يسْتُرون على ما رأوا" استجابة لتوسلاته وحزناً على وضعه، بعد أن أصبحت مشاهدة هذا البلل في فراشه حالة يومية... وبعد أن تجاوز مرحلة الطفولة وأصبح قريباً من عام الرجولة. انتظر إلى أن لم يبقَ في المغارة إلا واحد يرتبط معه "بطرف قرابة"، فهبط من "المُرْوشَنْ" الذي كان عبارة عن حزم من "البلان" تعلوها خرق بالية وأسمال حوَّلها التبول اللاإرادي في كل ليلة من ليالي الشتاء الطويلة إلى ما يشبه قطعاً من جلد "سعنٍ" مُنتنٍ رائحته قاتلة... لقد هبط وهو يتحسس سرواله "الخاكي" الأصفر تحت "الدَّجة" بنحو فترٍ وأكثر، ولما لامست أصابعه البلل مرة ثانية رفعها نحو أنفه فشعر بالغثيان وبالرائحة النفاثة العطنة تدخل إلى رئتيه مرة أخرى فأنزلها إلى الأسفل وكأن عقرباً كان ينتظرها عند فتحة أنفه. أطلق "صلية" من الكلمات المتلعثمة غير المفهومة وغير الواضحة وغير المترابطة، وهو يندفع نحو الرجل الذي يرتبط به "بطرف قرابة" مكسور الخاطر وكقط مذعور... احتضن قريبه من أسفل إبطيه فأدار هذا القريب وجهه في الاتجاه الآخر ليبعد أنفه عن رائحة البول المختمر التي تبعث على التقيؤ، لكن الشاب الذاهب إلى عام الرجولة تمكن من طبع سلسلة من القبلات المتلاحقة على جبينه، وهو يتوسل إليه أن يجد له حلاً لهذه البلوى التي كانت تلاحقه في نهايات كل ليلة من الليالي الشتائية الطويلة. أطرق "القريب" رأسه قليلاً... وقال وهو يفتعل الجديَّة: "الليلة قبل أن تأوي إلى فراشك سآتيك بالحل الناجح وبالدواء الشافي"، وهكذا وعندما حان موعد النوم في الليلة المقبلة اختلى به في واحدة من زوايا المغارة الواسعة الرحيبة... وطلب منه أن يحل سرواله وينزله إلى مستوى ركبتيه... ثم مدَّ، هذا القريب، يده إلى جيبه وهو يتقمص هيئة الطبيب النطاسي، وأخرج منه شعرة طويلة من "عسيب" إحدى خيول القرية، وتناول بيده اليسرى "إحليل" ذلك المسكين بحذر شديد، وكأنه يحاول الإمساك بسحلية سامة، وخنقه بشعرة عسيب الفرس خنقاً شديداً، ثم بمقص صغير كان يستخدمه لـ"تقنيب" شواربه وتشذيب لحيته قطع الطرفين المتبقيين من الشعرة عند آخر طرفي العقدة. آوى ذلك المسكين إلى فراشه تلك الليلة باكراً، واستلقى على ظهره وأخذ يحملق في سقف المغارة الشديد السواد، وهو يحلم بصباح سليم وجميل غير الصباحات المرعبة السابقة... ثم غرق في غفوة طويلة، وعند الصباح أحس بمثانته تضغط على الجزء الأسفل من بطنه، وشعر بألم شديد في المنطقة ذاتها... حاول النهوض لكنه لم يستطع فصرخ صرخة مدوية أيقظت كل "المرابعية" الذين يشاطرونه السكن... تسابقوا في الوصول إليه، وهم يعتقدون أن أفعى كانوا يشاهدونها في هذا المكان قد لدغته... أشار لهم بيد مرتجفة إلى الجزء الأسفل من بطنه... فتقدم الطبيب النطاسي بسرعة نحوه، وعندما كشف عليه وجد "إحليله" قد أصبح بحجم يقطينة كبيرة. حاولوا تخليصه من هذه المصيبة، ثم حملوه إلى خارج المغارة، بينما كان صراخه يبدد هدوء الصباح الباكر... وتجمع أهل القرية الرجال والنساء والأطفال، وعندما عرفوا الحقيقة "اسْتنْخوا" أحدهم، وكان مشهوراً بدقته، فتقدم نحو الضحية وعالج الشعرة، التي كانت غائرة بعيداً في لحمه إلى أن أصبحت غير مرئية، برأس مقص صغير... استمرت المعالجة نحو ساعة والمُصاب يواصل الصراخ المرعب والناس يضحكون... وفي لحظة انطلق "شؤبوب" من البول المُحتبس بشدة الرصاص المنطلق من فوهة بندقية، فتنفس المتجمهرون الصعداء وضحك بعضهم، وحوقل البعض الآخر، ثم تفرقوا تاركين المصاب يعتصر ويتلوى من الآلام الشديدة في طرفه الأسفل... وهنا انتهت المشكلة، لكن التندر بها بقي مستمراً يتناقله أهل القرية جيلاً بعد جيل، رغم مرور أكثر من ستين عاماً على صباح ذلك اليوم المحزن!