قيل لي في دُبي: ما أيسر أن تزور مسقط، وستنعم برؤية دار أوبرا عربية تُقرّبك من الأسطورة. وفعلت ذلك على الفور. قطعت تذكرة طيران كلّفتني اليسير، وقطعت زمناً لمسقط لم يتجاوز ثلاثة أرباع الساعة. شاعران بالغا الرقة كانا في انتظاري: سعيد الصقلاوي وعبدالرزاق الربيعي (عراقي). قالا لي إن دار الأوبرا ستكون أولى المفاجآت، لأنها على الطريق إلى حيث سأقيم. وبالفعل توقفنا أمام صرحها المهيب بعد فترة قصيرة من السوْق.

Ad

كانت أوبرا القاهرة صرح النهضة العربية التي أشرقت مع مطلع القرن العشرين وأضاءت نصفه الأول، ثم بدأت تصبح منفضة رماد مع مطلع نصفه الثاني، نصف الثورات الانقلابية، حتى اليوم الذي تنتصب فيه وسط عيون الإسلاميين الغاضبة. وفكرتُ بصوت مسموع إذا ما قُدّر لهذا الصرح المسقطي الجديد أن يصبح بشارة ضوء عربية للقرن الجديد؟ أعرف أن حديث اللغو هذا يخرج من فم رجل يؤمن إيمانا أعمى بالموسيقى. ولكن إيمانه لا يقف على كثيب رملي، ألا يحتفظ بمكتبته بسفر «الأغاني» لأبي الفرج، وبـ»العقد الفريد» لابن عبد ربه، وكتب الموسيقى النظرية لاخوان الصفا، وللإمام الغزالي وأخيه، وللفارابي، وابن سينا ولآخرين في أفق الفلسفة والأدب؟ فلم لا تُخرج هذه الجذور من تراثه العربي ثمارها المرئية التي أقدر أن ألمسها ويلمسها الناس بالأصابع؟ لمستُ جدارَ الأوبرا الآجري الأبيض بأصابعي فتردد وترٌ من جوفه، وترنّمتْ حنجرةٌ، واقشعرّت بشرةُ ابن سُريج وزرياب.

صرح الأوبرا السلطانية اكتمل قبل عامين، وباشر نشاطه لحظة اكتماله. فيه شَبَه موارب بدار الأوبرا الملكية في لندن، إلا انه هنا شرقي الهوى، ويسبح في فضاءِ محيطٍ رحب، تملك أن تتطلع إليه من مسافات بعيدة، ومن أكثر من جهة. في حين تُطل عليك أوبرا لندن فجأة، دون فضاء محيط، من بين أزقة «الكوفن غاردن» الضيقة. تجولت في أبهاء المبنى الخارجي، وقد نُحتت بيد ماهرة، في الزخرف العربي والخط العربي والأقواس العربية. ثم قطعت المبنى الملحق الذي لم يُفتتح بعد. مبنى المحال التجارية التي تبدو وكأنها لا تريد أن تتجاوز غاية جمالية. ثم أمّلت النفس برؤية عرض موسيقي من برنامجه الذي اطلعت عليه. وحققت الأمل بعد أيام ثلاثة في حضور حفل فرقة «ديبورا كولكر» البرازيلية الراقصة (أسستها كولكر عام 1994). كان البهو الداخلي مدهشاً في كل شيء.

في مساء اليوم الأول حققت تجوالاً في مسقط القديمة النائمة كحمل وديع بين مرتفعات جبلية. دار الأوبرا الذي رأيته خرجت من رحم هذه العمارة، مبان متفرقة لا تتعارض، بل تتواصل برشاقة بالغة الغنائية، فهي مترادفة لا متطابقة، وواجهاتها مثل كلمة منطوقة بوضوح أو مثل حجارة منحوتة بإزميل مرهف الشفرة، ولا ترتفع بأكثر من طابقين أو ثلاثة. وهي بيضاء (بياضاً حليبياً) لا حدة فيه، لا تخترق عتمة الليل المحيطة، بل تندلق منها كالزبدة، بفعل تأثير الإضاءة الصفراء المشوبة بالحمرة الشاحبة، والموزعة بدراية فنية عالية. كنت أردد: هذه أنظف وأجمل مدينة عربية بالتأكيد. وإذا كانت دار الأوبرا خرجت من رحم هذه العمارة، فهذه العمارة خرجت من رحم موروث عربي. وإذا كانت طبيعة مدينة دُبي، التي تحدثت عنها في مقالي السابق، خرجت من رحم «الخيال العلمي»، فهذه المدينة خرجت من رحم موروث يتماثل مع روح الأسطورة.

في الأيام التالية لزيارتي لم تشب انطباعي السابق شائبة، فالعمارة ظلت مترادفة لا متطابقة، وبلاغتها غنائية بفعل العناصر السابقة ذاتها. والفضاءات الشاسعة بين الكتل تضفي عليها مزيداً من الرشاقة. وفي هذه الأيام التالية التقيت عدداً من الكتاب والكاتبات، اصطفيتهم أصدقاء في لحظات اللقاء الأولى. قرأت آخر نتاجهم، وراقني مبلغ النضج فيها. ولعلي دُهشت لتفوق هذا النضج لدى المرأة الرسامة؛ عالية الفارسي، والمرأة الكاتبة؛ بشرى خلفان وجوخة الحارثي.

تركت مسقط إلى القاهرة، وأنا أُأمّل النفس بعودة شتائية أخرى، وإقامة أطول.