سيطر ملف غرامة "داو" على النقاشات السياسية على مستوى السلطة التنفيذية والتصريحات النيابية، حتى على الشارع العام، فغرامة بقيمة مليارَي دولار تدفع من المال العام إلى شركة أجنبية نتيجة فسخ عقد بعد ضغوطات سياسية كشفت العديد من نقاط الضعف في سلم اتخاذ القرار التنفيذي والعودة عنه، وبينت خطورة خلط المواقف السياسية "المسبقة" بالمشاريع الاقتصادية "المقبلة".

Ad

ويبدو أن الشق السياسي في ملف "كي-داو" اليوم أبعد من حدود وقف المشروع تحت ذريعة حماية المال العام، فالصفقة، وبعد إلغائها، تحولت إلى "قميص عثمان" داخل القطاع النفطي، يُرفع كلما تضاربت وتقاطعت المصالح مع الوزير أو قياديي الشركات النفطية وتعطلت المناقصات، الأمر الذي خلق أكثر من مواجهة سياسية وأدى إلى عدم استقرار القطاع الذي يعتبر الشريان الأول للدولة. كما يبدو أيضاً أن ما يواجهه وزير النفط هاني حسين اليوم ليس استجواباً لمعرفة حقيقة الصفقة وتبعاتها، فالنائب المستجوب سعدون حماد أعلن قبل تشكيل الحكومة الحالية، وتحديداً في ديسمبر 2012، نيته استجواب وزير النفط إن عاد إلى حقيبتها حسين، أي أن المساءلة ارتبطت باسم حامل الحقيبة لا القضية، وكان لحماد وزميله النائب نواف الفزيع تقديم أول استجواب في دور الانعقاد الحالي في فبراير الماضي تنفيذاً للوعود السابقة، إلا أن المجلس ارتأى تأجيل الاستجواب إلى دور الانعقاد المقبل، وإعطاء الوزير الوقت الكافي لبحث محاور الاستجواب المتطابق تماماً مع الاستجواب الجديد.

ويضاف إلى ذلك، أن من أيد تأجيل استجواب "النفط" الأول تحوّل موقفه بصورة دراماتيكية إلى مؤيد للمساءلة الجديدة بعد أقل من ثلاثة أشهر، وقبل انقضاء مهلة التأجيل التي وافق عليها مسبقاً عن قناعة، بل الأشد غرابة هو تناقض أقوال عضو لجنة التحقيق البرلمانية في "داو" ناصر المري الذي أعلن نهاية أبريل الماضي أن "اللجنة حتى الآن لم تصل إلى قناعة نهائية بأسباب إلغاء صفقة الداو، ومازالت في طور جمع الحقائق"، ليشارك بعد أسبوعين في استجواب في ذات القضية! وهو ما يثير الريبة، خاصة أنه عضو لجنة تحقيق ومطلّع على كثير من الشهادات والتفاصيل غير المعلنة.

ما يواجهه حسين أقرب ما يكون إلى معركة إقصاء نيابية لشخصه لا لأدائه، ومعركة أخرى للسيطرة على المناصب القيادية داخل القطاع عبر بوابة "داو" وتحميل المسؤولية لأكثر من "كبش فداء" لإبعاده كما تبين وقائع وتسلسل الأحداث.

البحث عن الأسباب التي أدت إلى غرامة "داو" ومحاسبة المتسببين، أياً كانت مناصبهم، واجب وطني تتحمل مسؤوليته السلطتان التنفيذية والتشريعية، وحجم القضية وتعقيداتها يتطلبان الحيادية في بحث تفاصيلها ومسبباتها، والاستعجال في إطلاق الأحكام النهائية لن يكشف الحقائق بقدر ما يدفنها مع الماضي، واليوم هناك لجنة تحقيق مستقلة شُكلت للبحث في ملابسات القضية من المتوقع أن تنهي أعمالها بعد شهر، وفي الجانب البرلماني هناك لجنة تحقيق برلمانية في الموضوع ذاته، ولكن استعجال المحاسبة "السياسية" قبل انتهاء التحقيقات "الفنية" يؤكد أن "داو" ليست سوى جسر عبور للسيطرة على القطاع النفطي.