كان الأسبوع الماضي حافلاً بالتطورات الخطيرة؛ فقد تلقت جماعة الإخوان المسلمين في مصر صفعة قاسية، بعدما أوقفت إحدى المحاكم قرار الرئيس مرسي بالدعوة إلى الانتخابات البرلمانية في أبريل المقبل.

Ad

إنه القرار الذي اتخذه الرئيس رغم معارضة شعبية واضحة له، ورغم إعلان جبهة الإنقاذ، التي تمثل التجمع الرئيسي لأحزاب المعارضة المدنية، مقاطعة الانتخابات، ورغم الانفلات الأمني في البلاد، وإضراب عدد من رجال الشرطة عن العمل، واستمرار نزيف الدم في أكثر من محافظة، والتدهور الاقتصادي الحاد، وتراجع مخزون السلع الغذائية مع تقلص الاحتياطي الاستراتيجي من النقد الأجنبي إلى أقل مستوى له منذ عقود.

لم يقم الرئيس وزناً لكل تلك الكوارث، وبدلاً من أن يتثبت من دستورية قراره بالدعوة إلى الانتخابات، عبر استيفاء الإجراءات القانونية اللازمة، أو يمهد له سياسياً عبر بناء التوافق مع الأطراف السياسية الأخرى التي يدعوها إلى التنافس الانتخابي، ضرب بهذا عرض الحائط، ودعا إلى حوار شكلي، حضره بعض الأحزاب الصغيرة المتحالفة مع جماعة "الإخوان"، وقاطعته جميع فصائل المعارضة المؤثرة.

لا أعلم ما إذا كان الرئيس مرسي يعرف حجم الأزمة التي تعانيها مصر الآن، أو يدرك مدى فداحة المخاطر، التي يمكن أن تأخذ طريقته في إدارة الأمور البلاد إليها، لكنني أعتقد أن هناك من يعلم ويدرك ويحلل الأوضاع التي نمر بها من بين قادة جماعة الإخوان المسلمين.

وسواء كان الرئيس قادراً على اتخاذ قرارات استراتيجية، تترتب عليها تحولات جوهرية، أو كانت تلك القرارات في يد "الجماعة" وحدها؛ فإن وضع السيناريوهات المتاحة للخروج من الأزمة أمام الأطراف المعنية يمكن أن يسهم في ترجيح السيناريو الأفضل، إذا كانت هناك نية فعلاً لانتهاج سياسات أقل خطراً وإخفاقاً، وأكثر اقتراباً من العقل والمنطق لإنقاذ مصر من كارثة باتت أقرب إلى الوقوع من أي وقت مضى.

السيناريو الأول يمكن تسميته بـ"سيناريو الاستعلاء والحسم"؛ وفي هذا السيناريو ستتقوى جماعة "الإخوان" بما تعتقد أنه شرعيتها المستمدة من نتائج الانتخابات، وسندها الشعبي الممثل في قواعدها وحلفائها والمتعاطفين معها، والدعم الخارجي اللامحدود من الولايات المتحدة والغرب عموماً وقطر وتركيا. ستستند "الجماعة" إلى مصادر القوة المتعددة تلك، وستستند أيضاً إلى جهاز الدولة الذي باتت تتحكم في مفاصله، والشرطة التي تحاول استخدامها كعصا لقمع مناوئيها، والقوى الصلبة المتمثلة في ميليشياتها والمناصرين لها من أتباع "التيارات الحركية" الإسلامية.

وستحسم "الجماعة" معركتها الراهنة مع مناوئيها وخصومها وأطياف الشعب المصري المعارضة الأخرى عبر سلسلة من القرارات الحاسمة، والإبعاد، والقمع، والاعتقال، وفرض الحصار، والاغتيال المادي والمعنوي أو التهديد بهما، واستخدام أدوات القانون المطوع لمصلحتها، وستنتج وضعاً استبدادياً جديداً، بغطاء "تصويتي" مستمد من نتائج الصناديق، وغطاء أخلاقي مستمد من تصنيفها لنفسها بأنها "ممثل الإسلام والشرعية"، وتصنيفها لخصومها باعتبارهم "كفاراً وعملاء وأعداء للوطن".

ولعل إصرار مرسي على الدعوة إلى الانتخابات رغم عوارها الدستوري والسياسي لم يكن إلا تعبيرا عن رغبة في تفعيل هذا السيناريو؛ خصوصاً أن بعض التيارات في "الجماعة" تعتقد أن "الضرب بيد من حديد على المعارضين، والمضي قدماً في خطط التمكين" هو الحل الأمثل لورطة "الإخوان" الراهنة. لكن هذا السيناريو لم ينجح هذه المرة، كما سبق وأخفق في محاولة إعادة مجلس الشعب المنحل، وفي إصدار الإعلان الدستوري الهزلي في 22 نوفمبر الماضي؛ وهو الإعلان الذي حصّن فيه الرئيس جميع قرارته ضد أي نوع من أنواع الطعن والمساءلة، قبل أن يتراجع عنه تحت ضغط شعبي كبير.

السيناريو الثاني يمكن تسميته بسيناريو "شغل المسرح"؛ وهو سيناريو يعتمد على التسويف والمماطلة، وإطفاء الحرائق، والتعويل على الوقت، واستهلاك طاقة المعارضين، ومحاولة اللعب على التناقضات بينهم لشق صفوفهم، و"شيطنة" الاحتجاجات والتظاهرات، بوصفها "تعطيلاً لحال البلد"، وصولاً إلى تحسين "الجماعة" أوضاعها السياسية، وتعزيز تمركزها في مفاصل السلطة، واستكمال خطة "أخونة ناعمة" لمراكز القرار، تمكنها من الخروج من الأزمة الراهنة بأقل تكاليف وتنازلات ممكنة.

يبدو أن هذا السيناريو أيضاً يجد من يتبناه ضمن قيادات "الجماعة"، وربما كان مرسي نفسه من هؤلاء، لكنه لا يستطيع المضي قدماً في ما يقرره أو يريده، بسبب هيمنة أجنحة أكثر "صقورية" على القرار النهائي للتنظيم، ومن ثم الرئاسة. يمكن أن يكون هذا مجرد تحليل يستند إلى مشاهدات عديدة، لكنه على الأقل ما يؤيده الدكتور سمير مرقص أحد مساعدي مرسي السابقين، والذي استقال اعتراضاً على إصداره الإعلان الدستوري السابق الإشارة إليه؛ إذ يقول الرجل إن "مرسي حاول أن يتمرد على (الجماعة)، ويكون نفسه، إلا أن تياراً في (الإخوان) حال دون ذلك".

السيناريو الثالث يمكن تسميته بسيناريو "التنازلات التكتيكية المؤلمة"؛ وفي هذا السيناريو ستقدم "الجماعة" تنازلات حقيقية ملموسة، تعكس إدراكها لخطورة الموقف، ورغبتها في إيجاد حلول متوازنة. ومن بين الحلول التي ستقدمها "الجماعة" في هذا الصدد التجاوب مع مطالب الحركة الوطنية المتمثلة في تشكيل حكومة وحدة وطنية للإشراف على الانتخابات المقبلة، والكف عن سياسات "الأخونة" وتعميق الاستقطاب، والتجاوب مع تعديلات المحكمة الدستورية على قانون الانتخاب، وتقديم ضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات المنتظرة، والامتناع عن العبث بسلطة القضاء واستهداف المؤسسة العسكرية، وإجراء التحقيقات الشفافة الناجعة في التجاوزات الأخيرة بحق المتظاهرين والناشطين.

أما السيناريو الرابع فيمكن تسميته بسيناريو "الحل الاستراتيجي"، وسيستند هذا السيناريو إلى إدراك "الجماعة" أن استمرار شغل الرئيس مرسي لموقعه سيكبدها خسائر استراتيجية فادحة، بعدما أظهرت الوقائع المتلاحقة تدنياً كبيراً في قدراته ومهاراته اللازمة للنهوض بأعباء شغل هذا الموقع، وبعدما بات واضحاً أن "الجماعة" تخسر من سمعتها المحلية والإقليمية والدولية جراء الأداء المتخبط لمؤسسة الرئاسة، بشكل ينال من مستقبلها السياسي في الداخل والخارج، ويعرض البلاد للسقوط في الوقت ذاته. وستعمد "الجماعة" من خلال هذا السيناريو إلى الموافقة على مطلب إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهي الانتخابات التي ستُفقدها على الأرجح منصب الرئيس، لكنها في الوقت ذاته ستعزز وجودها برلمانياً، وستمكنها من العودة لبناء سمعتها من جديد، بعدما فقدت الاعتبارين السياسي والأخلاقي، بسبب الأداء المزري الذي صدر عنها وعن حكومتها وبرلمانها وجمعيتها التأسيسية وقواعدها التنظيمية وحلفائها التقليديين.

تشعر جماعة "الإخوان" بأنها وصلت إلى سدة الحكم في مصر من خلال "معونة ربانية"، وتقنعها تربيتها السياسية بضرورة "المجالدة"، وتكرس إيمانها بـ"حتمية النصر"، وبسبب افتقادها نزعة المجازفة، ومخاوفها العميقة من الهزيمة الكاملة المعلنة، فإنها لن تلجأ إلى "الحسم"، وبسبب نزعتها البراغماتية، وسلوكها الانتهازي، ورغبتها العارمة في القبض على السلطة، فإنها لن تلجأ إلى سيناريو "الحل الاستراتيجي".

يبدو إذن أن "الجماعة" تفضل العمل على استهلاك الوقت أو "شغل المسرح"، لحين استنفاد قوة المعارضة وطاقتها، لكنها قد تضطر إلى اللجوء لسيناريو "التنازلات التكتيكية"، إذا تواجد الضغط الملح العاقل، وتواصل بلا انقطاع أو كلل.

* كاتب مصري