في كثير من الأحيان تذهب المناقشة الدائرة حول العلاقة بين الدولة والأسواق إلى تصوير الطرفين وكأنهما قوتان متعارضتان مشتبكتان في صراع محصلته في النهاية صفر. ولكن هذا النهج التبسيطي سرعان ما يحول المناقشة البناءة إلى ضحية للمعركة الأيديولوجية بين دعاة رأسمالية الدولة ودعاة رأسمالية السوق.

Ad

الواقع أن أي إطار آخر أكثر نفعاً سينظر إلى الدولة والسوق باعتبارهما وجهين لنفس العملة، تربطهما معاً البنية الأساسية لحقوق الملكية. تتفاعل الدولة مع السوق- العالم الخاص للتبادل الطوعي الخاص لحقوق الملكية- بثلاث طرق رئيسة.

فأولاً، تتعامل الدولة مع القطاع الخاص من خلال الضرائب والإنفاق. وثانياً، تؤسس الدولة للبنية الأساسية لحقوق الملكية وتحافظ عليها، وتضم هذه البنية الأساسية كل المؤسسات اللازمة لوصف ورسم، وتبادل، وضبط، وحماية حقوق الملكية (من خلال إنفاذ القانون والعقود). ومن بين هذه المؤسسات السلطة القضائية وهيئات التحكيم، التي لا تعمل للفصل في النزاعات الخاصة بحقوق الملكية فحسب، بل لمعالجة التجاوزات والنزاعات الإدارية بين القطاعين الخاص والعام، أيضاً. وأخيراً، تتنافس الدولة مع القطاع الخاص عبر الشركات والمرافقة العامة المملوكة للدولة.

ولأن البنية الأساسية الفعّالة لحقوق الملكية تعمل على حماية نظام السوق واستقراره، فإن السوق تحتاج إلى دولة قوية تحمي هذه البنية. وهذا يعني أن كون الحكومة "كبيرة" أو "صغيرة" أقل أهمية من براعتها في إدارة البنية الأساسية لحقوق الملكية- ما إذا كانت الدولة قادرة على ضمان نظام السوق العالي الجودة.

وقد أهملت المناقشات الجارية بشأن السياسات هذا الجانب من دور الدولة إلى حد كبير، لأن المفكرين الغربيين يعتبرون البنية الأساسية لحقوق الملكية في بلدانهم من الأمور المفروغ منها، خصوصاً أجهزتها التنظيمية وسلطاتها القضائية، التي استفادت من مئات السنين من التطور. ولكن تجارب هذه البلدان تختلف تمام الاختلاف عن تجارب الاقتصادات النامية، التي تخضع لضغوط شديدة للمسارعة إلى تشييد بنية أساسية سليمة للملكية الفكرية.

وبالنسبة لاقتصاد ضخم مثل الصين- حيث تتداخل التنظيمات البيروقراطية في هيئات الدولة المختلفة، وتمتد طبقات عديدة من الحكومة من الإدارة المركزية إلى الوحدات المحلية- فإن خلق بنية أساسية شفافة وعادلة وفعّالة أمر بالغ الصعوبة. فمع تحرك الاقتصاد الذي تقوده الدولة باتجاه نظام قائم على السوق، يجد صناع السياسات أنفسهم في مواجهة اختبار صعب: مواصلة السياسات المرتبطة بنمو الناتج المحلي الإجمالي الفوري والسريع، أو السعي إلى الفوائد الأطول أمداً والأقل وضوحاً المصاحبة لتطوير البنية الأساسية لحقوق الملكية.

عندما بدأت الصين هذا التحول، كانت حكومتها المركزية وحكوماتها المحلية تركز على تشييد البنية الأساسية المادية، مثل الطرق وشبكات الكهرباء، وأسفر ذلك التوجه عن مكاسب ملموسة. ولكن استثمار الدولة الأقل وضوحاً في البنية الأساسية المؤسسية للبلاد هو الذي كان له أبلغ الأثر على نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، أنشأت الحكومة بنية أساسية انتقالية ولكنها فعّالة لحقوق الملكية من أجل إزالة الحواجز التي تحد من القدرة على دخول السوق، وتحديد حقوق ملكية جديدة، ومحاكاة القواعد الدولية، وبالتالي تسهيل التجارة الخارجية وتمكين الشركات المتعددة الجنسيات الأجنبية من العمل بفعالية في الصين.

وتلعب سلسلة إمداد الخدمات الحكومية في الصين دوراً مهماً في تنظيم ودعم تطور اقتصاد السوق. ولكنها ليست كافية. فبعد أن أصبحت الكيانات الخاصة والمملوكة لأجانب الآن تمثل أكثر من ثلثي الناتج في الصين، ومع تحول الصين إلى لاعب رائد في الأسواق العالمية، فإن الحاجة إلى ترقية البنية الأساسية لحقوق الملكية ملحة بشكل متزايد.

ومن أجل خلق القيمة بشكل متسق متماسك داخل الأسواق المحلية والدولية، فيتعين على الصين أن تضمن أن المنافسة عادلة، وشفافة، وخاضعة لسيادة القانون. ويدرك زعماء الصين أن الشركات الخاصة الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تتمتع بالقدرة على الوصول إلى السوق تشكل مصدراً أكثر جدارة بالثقة للإبداع وخلق فرص العمل مقارنة بالاحتكارات الضخمة المملوكة للدولة.

وعلى هذا فإن استمرار نجاح الصين الاقتصادي يتوقف على تقليص ملكية الدولة لرأس المال الإنتاجي، وتيسير إبداع السوق والنمو، والاستثمار في رأس المال البشري، من خلال التعليم والرعاية الصحية والرفاهة الاجتماعية. وهذا يعني في الواقع الملموس إدخال الإصلاحات الخاصة بالأراضي والخصخصة، وتنظيم الغذاء والدواء، وحماية رأس المال البشري والملكية الفكرية، والحفاظ على قيمة المدخرات الأسرية، وضمان القدرة على الوصول إلى السوق، وفرض ضرائب عادلة وشفافة.

ولن تؤدي هذه الإصلاحات إلى إضعاف الدولة؛ بل إنها ستغير ببساطة توزيع السلطة من أجل خلق نظام أكثر استقراراً. على سبيل المثال، لن يكون الهدف الأساسي للخصخصة تقليص حجم القطاع الحكومي، بل إزالة الامتيازات غير العادلة والمستترة التي تتمتع بها الشركات المملوكة للدولة، مثل القروض المدعمة والمراكز الاحتكارية في السوق. وهذا من شأنه أن يساعد في القضاء على الفساد من خلال جعل الوظائف البيروقراطية أكثر شفافية ومنع المسؤولين الرسميين من مكافأة أنفسهم على حساب عامة الناس.

ويستلزم تعزيز سيادة القانون وخلق فرص متكافئة في الأساس تشييد بنية أساسية مستقرة وفعّالة لحقوق الملكية، تتألف من مؤسسات قادرة على تحفيز الموظفين العموميين لحملهم على تسليم الخدمات بشكل فعّال بقدر الإمكان. ومثل هذه البنية الأساسية لحقوق الملكية كفيلة بضمان قدرة الدولة على الوفاء بمسؤولياتها في ما يتصل بحماية العدالة، وإنفاذ القانون بحزم وشفافية، وتمكين المنافسين الأكثر قوة من جني ما يستحقونه من عوائد عادلة.

والنبأ السار هنا هو أن العديد من الحكومات المحلية في الصين، وهي المسؤولة عن الإشراف على المحاكم في البلاد، بدأت بالتنافس فيما بينها لتقديم وتسليم بنية أساسية أفضل لحقوق الملكية. ويدرك القائمون على هذه الحكومات أن الأسواق المستقرة العادلة أفضل من البنية الأساسية المادية في خلق فرص العمل ودفع عجلة النمو الطويل الأجل. أما النبأ السيئ فهو أن أولئك المستفيدين من النظام الحالي يقاومون التقدم.

ومن أجل الإبحار بسلام عبر هذه العلاقة المعقدة بين السوق والدولة وتحقيق نتائج مفيدة، يتعين على صناع السياسات في الصين أن يكونوا فكرة واضحة عن المجالات الأكثر احتياجاً إلى قدرة الدولة المحدودة ورأس المال السياسي. وهذا يتطلب إقامة حوار بشأن العلاقة بين الدولة والسوق يختلف تماماً عن ذلك الحوار الذي اعتاد عليه أهل الغرب.

أندرو شنغ & شياو غنغ

* شينغ، رئيس معهد فونغ العالمي، والرئيس الأسبق للجنة الأوراق المالية والعقود الآجلة في هونغ كونغ، وأستاذ مساعد بجامعة تشينخوا في بكين حاليا. وغينغ، مدير البحوث في معهد فونغ العالمي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»