تحريم تهنئة المسيحيين... خطاب كراهية
ترأس الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف وفداً إسلامياً رفيع المستوى لزيارة الكاتدرائية المرقسية بالعباسية لتهنئة البابا تواضروس الثاني بالعام الميلادي الجديد وأعياد الميلاد المجيدة، تأتي هذه الزيارة لتأكيد القيم المشتركة بين المسيحية والإسلام وغرس المحبة والتسامح بين أبناء الديانتين. وبينما أعرب البابا عن شكره لشيخ الأزهر مؤكداً أهمية دور الأزهر كمؤسسة وسطية في الحياة المصرية أكد شيخ الأزهر أن مبادرة (بيت العائلة) المصرية بلجانها المتعددة وأنشطتها مستمرة في طريق استعادة القيم المصرية العليا التي زرعها الإيمان، مشيراً إلى حرص المسيحيين والمسلمين معاً على تقديم نموذج فريد للتعايش، قائلاً "إن الإسلام يدعو إلى محبة الأقباط ومن يختلفون معنا في الدين، ومن يفعل غير ذلك فهو لا يعرف الإسلام"، ومن جانبه أكد د. علي جمعة مفتي الديار المصرية ضرورة تبادل اللقاءات والتهنئة والتحية بين الإخوة في الوطن، وقال: هذا من صميم روح الإسلام.
هذا على المستوى العربي، وأما على المستوى الخليجي فقد اعتادت وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة في أبوظبي، الحرص على المشاركة بوفد في احتفالات الكنيسة الإنجيلية بأعياد الميلاد السنوية، وهذه المشاركة إنما تترجم بصدق سياسة التعايش السلمي وكفالة حرية الأديان التي أسسها ورعاها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله تعالى، انطلاقاً من ثقافة إيمان عميق بالمحبة الإنسانية الشاملة لجميع الشعوب والأمم، وتأكيداً لنهج التعايش القائم على المودة والأخوة والبر، ومصداقاً لقوله تعالى "أن تبروهم" تعبيراً عن أسمى أنواع التعامل الإنساني مع أتباع الأديان الأخرى. وفي الكويت أحيت الكنائس الكويتية ذكرى ميلاد السيد المسيح واحتفلت بالميلاد المجيد سلامة ومحبة لشعوب العالم، وغصت الكنائس بروادها من مختلف الجنسيات ابتهاجاً بهذه المناسبة، وتزينت بأشجار عيد الميلاد التي أضاءت جنبات أماكن الصلاة في الوقت الذي عبر فيه عدد من رعايا الكنائس من سعادتهم وتقديرهم للكويت شعباً وحكومة، وقد شارك في هذه المناسبة سفراء من الدول العربية والإسلامية مقدمين التهنئة والتبريك. وكما حصل في الكويت حصل في معظم الدول العربية والخليجية من غير أن يعكر صفو هذه الاحتفالات التي عمت العالم أجمع أي نكير ما عدا أصواتا وفتاوى وخطبا هنا وهناك بتحريم تهنئة المسحيين بأعيادهم، لكنها لم تكن مؤثرة لا على المستوى الرسمي ولا على المستوى الشعبي، فقد نضجت شعوبنا وأصبحت لا تلقي بالاً لمثل هذه الفتاوى. إننا اليوم أحوج ما نكون إلى إظهار الوجه الإنساني المشرق لتعاليم ديننا في حسن التعامل مع أصحاب المعتقدات والأديان المختلفة، كما أننا بحاجة ماسة إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة تجاه الإسلام والمسلمين، ونريد تأكيد الفهم الصحيح لتعاليم ديننا وكتابنا الذي ينظر إلى كل الأنبياء والرسل والكتب السماوية نظرة تكريم وتبجيل، ويجعل هذه النظرة جزءاً من عقيدة المسلم. كيف لا نشارك شعوب العالم البهجة لذكرى ميلاد السيد المسيح الذي كان معجزة إلهية وبشارة مباركة احتفى بها قرآننا الكريم؟ رسالة السيد المسيح عليه السلام رسالة محبة وسلام وهداية وإيمان وهي رسالات الأنبياء والرسل جميعاً، والاحتفال والمشاركة في هذه المناسبة العالمية إحياء لهذه المعاني والقيم العالية، ومع بالغ احترامي للفتاوى المحرمة لتهنئة المسيحيين أو المشاركة في أعيادهم بحجة أن "الأصل في الأعياد الدينية أنها من خصوصيات كل ملة ونحلة، فلا تحل المشاركة ولا التهنئة في هذه المناسبات الدينية" إلا أني كدارس للشريعة ومتعمق في علومها، غير مقتنع بها بعد أن قال المولى عز وجل "أن تبروهم" وليس من البر المأمور به، والبر كلمة جامعة وشاملة لكل المعاني والقيم الخيرة. لمَ عدم تهنئتهم ومقاطعتهم وعدم المشاركة في فرحتهم بذكرى ميلاد نبي احتفى القرآن الكريم بمولده واعتبره معجزة وبشارة إلهية مباركة "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ" إلى قوله تعالى "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ وَجِيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ"؟وكيف لا نحتفل بميلاد عيسى عليه السلام وهو الذي بشر بقدوم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام "وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"؟ كيف نقاطع العالم ولا نشاركهم أعياد البهجة والسرور بمولد المسيح ونحن أولى به طبقاً لقول رسولنا "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد"؟ كيف لا نعبر عن فرحتنا بمولد المسيح وقرآننا الكريم يقول عنه "وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا"؟ كيف لا نساهم مع شعوب الأرض في نشر رسالة المحبة والتسامح والسلام؟!مع تفهمنا العميق لوجهة نظر المحرمين فإنهم يحرمون أمراً لا ينبغي تحريمه، كما أنه لا سند صحيحاً لهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعيد على أهل الكتاب كما يقول علي عبدالباقي الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ويضيف د. محمد مهنا عضو المكتب الفني لشيخ الأزهر مخاطباً المحرمين: فليأتوا بنص من الإسلام يحرم التهنئة! أما الشيخ عبدالحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى السابق فيقول: لا يجوز التحريم إلا بنص. يبقى أن نقول: نحن اليوم نعيش في عالم يسعى إلى إزالة الحواجز السياسية والثقافية بين شعوبه التي تزداد تقارباً وتواصلاً، ويتخذ قادتها سياسة "الاعتماد المتبادل" منهجاً في العلاقات الدولية، لتحقيق المصالح المشتركة ودرءاً للمخاطر والسلبيات، وإذا كان القادة السياسيون معنيين بالتقارب، فالأجدر بممثلي وحكماء الأديان الكبرى أن يكونوا الأكثر حرصاً على التقارب وعلى غرس قيم التسامح والتآخي الإنساني والتعاون ونشر الفضائل والقيم الرفيعة ونبذ ثقافة الكراهية والتعصب. إن الفتاوى والخطب التي تحرم تهنئة المسيحيين بعيدهم هي خطاب مقاطعة وإقصاء، وهي خطاب كراهية، وترويجها عبر الوسائل الإعلامية، ترويج لثقافة الكراهية في الوقت الذي يطالب فيه المسلمون المجتمع الدولي بتجريم خطاب الكراهية ومنع الإساءة إلى الأديان. ونختم المقالة بما كتبه الباحث الكويتي حامد الحمود في مقالة جميلة بعنوان "يوم أحد في كنيسة" يقول الكاتب: "دخلت كنيسة في مدينة صغيرة في ولاية وسكونسون الأميركية، واستمعت إلى القس يناجي الله سبحانه وتعالى بهذا النشيد الرباعي: اجعلني يا إلهي قناة لتحقيق السلام، وعندما تكون هناك كراهية، مكني من زرع المحبة، واغفر لي عندما أكون سبباً في جرح الآخرين، وعندما يكون هناك شك، ليكن هناك إيمان، وعندما يكون هناك يأس من الحياة، ليكن هناك أمل، اجعلني يا إلهي قناة لتحقيق السلام، وعندما يكون هناك ظلام، ليكن هناك نور، وعندما يكون هناك حزن، حوله بهجة وفرح، وهبني ما أبحث عنه وازرع محبتي في قلوب الناس، لكي أحبهم من دواخل روحي، وعندما أموت، ابعثني مع الطيبين". * كاتب قطري