نصف قرن من النهضة الثقافية
خصص ملتقى مجلة العربي الثاني عشر فعاليته لمناقشة أثر نصف قرن من النهضة الثقافية للجزيرة والخليج العربي، وهو أمر جاء في وقته تماما لاسيما مع اكتمال نصف قرن من عمر هذه الثقافة التي نمت وكبرت وانتشرت في هذه المنطقة التي تعد من مناطق الأطراف العربية ذات التأثير الذي لا يماثل في تأثيره مناطق الوسط العربي صاحب التأثير الثقافي الأوفر حظا، والأكثر تأثيرا خلال القرن الماضي الذي تسيدت معالمه الآيدلوجيات ذات الشعارات الطنانة.لكن الوضع الحالي اختلف كثيرا عن ما سبقه، وبدأ يظهر التأثير الواضح للثقافات الخليجية وما زرعته من نصف قرن، وبدأت تتشكل سماته في انتشار مؤسسات تعنى بالشأن الثقافي الخليجي والعربي، وهو ما دفع مجلة العربي العريقة الى تخصيص ندوتها السنوية لتسليط الضوء عليه، للكشف عن حصاد لنصف القرن هذا من النهضة الثقافية للجزيرة والخليج العربي، الذي قُدمت فيه أبحاث عديدة غطت كل حركة الفن التشكيلي والمسرح والكتابة الشعرية والروائية وغيرها، وشارك فيها كتاب وباحثون عرب وخليجيون وأجانب، وكانت الندوات ثرية ومفيدة في كشفها وتغطيتها لهذه الحركة الممتدة عبر الـ50 عاما التي مضت.
والسؤال الذي يدور في بالي هو: هل هناك مخطط ثقافي جلي واضح ومدروس بعناية لتأسيس ثقافة خليجية عربية تعنى بهذه المنطقة وبتشكيل مستقبلها بشكل واع يقود في نهايته إلى تحقيق مشروع ثقافي ريادي ينهض بمستقبل هذه الأمة بعيدا عن غزو وسيطرة التأثيرات الهاجمة من الخارج أو المتغلغلة من سلطات دينية أو عقائدية وآيدلوجية تتسلل إلى فرض وجودها حين لا تجد ما يسد الطريق عليها؟لا يوجد إلى حد الآن مشروع مخطط واضح، هناك اجتهادات فردية ومؤسساتية لكنها لا تقوم على هدف مشروع ثابت يكون مثل البنية التحتية لبناء وعي أمة ذات ثقافة عميقة قائمة على أسس مدروسة بقيم مغروسة في وعيها ووجدانها، بحيث تشكل أبعادا لمشروعها الثقافي. وإلى حد الآن لا نستطيع تحديد أبعاد المشروع الثقافي لأي دولة من دول الخليج بشكل سافر جلي واضح، هناك قفزات رائعة لكنها لم تعط خريطة للطريق، وأغلب الأسماء التي تسيدت المشهد الثقافي هي نشاطات خلاقة فتحت الطريق لريادة في حقل ثقافي ما، لكنها لم تمثل ترسيخا لها بشكل أساسي ثابت، لأنه لا يوجد لها قوام ومفهوم في وعي الناس مؤسس في بنائهم منذ الأساس الأول الذي كان يجب أن يقوم عليه بناء اللبنة الأولى في النمو المدرسي، فكيف يكون هناك وعي فني أدبي ثقافي ما لم تغرس جذوره منذ بدايات تشكيل الوعي الإنساني بها؟ خاصة أن مادة الموسيقى والرسم والمسرح قد ألغيت من المناهج المدرسية، فكيف سيتشكل الوعي بها واستيعابها وفهمها ما لم تغرس في الوعي المبكر بها؟ولعل البحث الذي قدمه كامل يوسف حسين عن مستقبل الحركة الثقافية الخليجية.. الإمارات نموذجا، والذي قدم فيه تصور عن آليات المشروع الثقافي الشامل في الإمارات وأدواته، كان من البحوث الجادة والجيدة التي تعطي صورة ونموذجا عن الوضع الثقافي الخليجي، والذي صور فيه ملامح المشروع الثقافي الإماراتي الذي سيتم اعتماده في نهاية المطاف، كما أشار الى "أنه يكون إسلامي الروح، عربي القسمات، عصري الأدوات والأساليب، وألا يكون تقليدا لأي نموذج آخر في التنمية الثقافية، وإنما يحلق عاليا ليستقطب الاهتمام، ويدفع الآخرين إلى استلهام مقوماته وعناصره وأفكاره".نتمنى أن يكون مثل هذا المشروع لبنة يتبناها أعضاء مجلس الدول الخليجية أو ما يماثله ويقاربه، بحيث يشكل هوية ثقافية صلبة وأساسية في عالم انعدمت وانهدمت فيه الهويات.شكرا لملتقى مجلة العربي ولكل العاملين فيه على هذا المجهود الكبير في إعداد الندوات التنويرية المفيدة والقيمة التي تقدمها لخدمة الناس والمجتمع والثقافة بشكل عام الذي تمثل فيه دورا رياديا باستمرار.