مؤكد أن واقع الثقافة العربية يتطلب بالضرورة وقفة متأنية وجادة لدراسة العلاقة التي نشأت بين ثورات ما بات يُعرف بالربيع العربي، وبين ظلال ذلك الربيع على مجمل الحياة الإبداعية والأدبية والثقافية في مختلف أقطار الوطن العربي.

Ad

بداية لا بدَّ من الاعتراف أن خروج الشعوب العربية عارية الصدر بتظاهرات سلمية غير مسبوقة، تطالب بالحرية والديمقراطية وكرامة العيش الإنساني، شدّت انتباه وتعجب العالم، وكسرت حاجز الخوف تجاه الحاكم والسلطة، وروّجت لكلمة «ارحل» لتكون الكلمة الأهم في غضون السنوات القليلة الماضية. ولكن، هذه الـ»ارحل» كنست حكاماً وسلطات ومعها كنست رموزاً وحياة بأسرها، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً وفنياً وحتى رياضياً. فأنظمة حكم أمضت عقوداً في السلطة، صبغت من حولها كل الحيوات بصبغها، إلا ما رحِم ربك!

واضحٌ تأثير الثورات العربية على الإبداع والثقافة، ففي بلدان تخوض في بحر التظاهرات والاختلافات والعنف والدم والموت، تصبح الحياة أضيق بكثير من فسحة التنزه في بستان الأدب والفن، وتصبح البندقية هي الصديق والصديقة، ويصبح الخوف هو وجيب القلب، ويصبح الحصول على لقمة العيش هو العيش بعينه!

أصابت الثورات العربية الحياة الإبداعية والثقافية والفنية في مقتل، ولأنها أكثر حساسية ورهافة وخجل من الكثير من مقومات الواقع اليومي للإنسان، توارت الكتابة خلف جدار اللحظة الملطّخ بالوجع والخوف، وصار المبدع العربي يحسب ألف حساب قبل أن يخطّ قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة، فلمن يكتب في وسط زحمة صراخ الحياة؟ ومن سيقرأ ما يكتب؟ وأخيراً أين تراه الناقد الذي سيستل نفسه من طين اللحظة المشتعلة، ليتفرغ للقراءة النقدية العميقة، ومن ثم يجنّد نفسه لكتابة مقال نقدي حول رواية أو مجموعة قصصية؟

إذا ما أخذنا بالحسبان أن عدداً كبيراً من النقاد العرب يأتي من سورية ولبنان ومصر والعراق والأردن والمغرب وتونس والجزائر، إضافة إلى نخبة من الأصوات النقدية الخليجية المهمة، فإن المتابع للصفحات الثقافية العربية يرى تقهقر النقد، وقلة المقالات النقدية التي تتناول الإبداع العربي، رواية وقصة وشعراً، وبما يستلزم وقفة جادة لمعالجة مأزق النقد القاتل.

الناقد العربي هو مواطن يعيش نبض وطنه وقضاياه وضياعه، قبل أن يكون قارئاً وناقداً يحمل هماً فكرياً وإبداعياً يعبر عنه في مقالاته وكتبه. ولأن أوضاع النقاد العرب، الإنسانية والاجتماعية والمالية، تكاد تكون مزرية فإن الالتفات إليهم وإلى مأزقهم الحياتي والإبداعي، بات ضرورة تحتمها أهمية الدور الكبير الذي يلعبه النقد على ساحة الإبداع والثقافة، وتحتمها أهمية وقوف جمهور القراءة العربي، على الرغم من قلته، على مستوى الأعمال الأدبية المطروحة على الساحة الثقافية، حتى في ظل أوضاع مضطربة، لأن نظرة بسيطة لواقع أقطار الوطن العربي، يقول بكل أسف، إن حالات الاضطراب التي نعيشها هذه الأيام مرشحة للبقاء ربما لسنوات، ولو أني أتمنى خلاف ذلك!

مهام كثيرة يمكن النظر إليها للمساعدة على خلق حياة نقدية أدبية جديدة تستطيع التنفس وسط ركام الوجع العربي، ومؤكد أن جميع المشتغلين بالهم الثقافي معنيّون بالتفكير في كيفية الوصول إليها. بدءاً من المؤسسات الثقافية العربية، مروراً بأصحاب الصفحات الثقافية في الجرائد والمجلات العربية، وانتهاء بالجهد الشخصي للكتّاب والنقاد.

النقد العربي ظل لعقود مرتهنا إلى أقلام نقدية بعينها، مما خلق شللية بغيضة لا يمكن إنكارها، وربما تأتي ثورات الربيع العربي، بالرغم من كل أوجاعها والمخاوف التي تحيط بها، بنقاد جدد، يضخّون رؤى جديدة في ساحة الثقافة والإبداع العربي، ويشكلون مشهداً نقدياً يليق بثورة الإنسان العربي العظيمة، ويليق بلحظة تاريخية كسرت كل الطواغيت المتحجرة!