وصلت عمليات غسل الأموال من قبل بنوك دولية كبرى الى نسب وبائية، ويفترض أن تكون السلطات الأميركية تنظر في الوقت الراهن في أعمال قامت بها مؤسسة "سيتي غروب" و"بنك جي بي مورغان تشيس".

Ad

وكان الحاكم جيرومي باول قد أدلى أخيراً نيابة عن مجلس محافظي نظام مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي) بشهادته أمام الكونغرس الأميركي واتسمت نبرته بالجدية، غير أن المجرمين والإرهابيين الدوليين لم يتملكهم القلق، ويرجع ذلك إلى عدم وجود ما يدعو المصرفيين المتورطين في الجرم إلى الخوف من النظام القضائي الأميركي.

وكي أكون في الجانب الآمن أقول إن المتورطين والأوغاد عادة ما يسعون إلى التيقن من استخدامهم مصرفاً عالمياً كبيراً حقاً في كافة احتياجاتهم المتعلقة بغسل الأموال.

قد تكون هناك غرامات، غير أنه ليس من المحتمل أن تواجه كبرى الشركات المالية إجراءات جنائية أو عقوبات ذات وزن، كما أن وزارة العدل قررت أن تلك البنوك أكبر من أن تتعرض للتقاضي في وجه أقصى مدى للقانون المطبق، على الرغم من الغموض الذي يحيط بأسباب نجاة الموظفين والمديرين التنفيذيين من العقاب. وإضافة إلى ذلك فإن مجلس الاحتياط الفدرالي يرفض إلغاء تراخيص البنوك ما يقوض مصداقية النظام المالي وشرعيته واستقراره.

ولبيان مدى الضرر الذي ينطوي عليه برنامج الحوافز المعمول به حالياً، يكفينا استعراض قضية بنك كبير ضالع في ممارسات غسل أموال قام أخيراً بانتهاك اتفاق تقاضٍ مؤجل مع وزارة العدل، وخرق علانية قانون الأوراق المالية الأميركي، ووضع إصبعه في عين مجلس الاحتياط الفدرالي متحدياً أن تمسه أي عقوبات. هذا ما قام به رئيس مجلس إدارة بنك "ستاندرد تشارترد"، جون بيس، وزملاؤه في الخامس من مارس الماضي، ورغم ذلك لم تطله، هو أو شركته، أي عواقب ملموسة على الإطلاق.

بيان رئيس المصرف

ومن المثير للسخرية، أن مصرف "ستاندرد تشارترد" كان قد أقر منذ زمن طويل أنه انتهك القوانين الأميركية المتعلقة بغسل الأموال بطريقة واضحة ومتصلة. في أواخر عام 2012 دخل في اتفاق مقاضاة مؤجل مع وزارة العدل، ووافق على دفع غرامة طفيفة للغاية (وفي كل الحالات، فإن مثل تلك الغرامات التي فرضت على البنك يقوم حملة الأسهم بسدادها ولا تتحملها الإدارة).

وبعد ذلك جاء الخامس من مارس الماضي وخلال مؤتمر مع المستثمرين، نفى جون بيس قيام البنك وموظفيه خرق القوانين الأميركية عمداً من خلال أنشطة تتعلق بغسل الأموال، وكان هذا البيان، في حد ذاته، خرقاً واضحاً لاتفاقية التقاضي المؤجلة التي ورد في الفقرة 12 من الصفحة العاشرة أن البنك وأي من موظفيه يتعهدون بعدم الإدلاء "بأي تصريح علني يتناقض مع مبدأ قبول المسؤولية المنصوص عليها أعلاه أو الوقائع المذكورة في البيان الواقعي". ويعد هذا التصريح الذي أدلى به بيس خرقاً مقصوداً ومادياً للاتفاق السالف الذكر.

وهنا تبرز أحداث المسرحية العبثية... فقد احتاج البنك، لأسباب ما لا نعلمها، إلى 11 يوم عمل- وليس 5 أيام حسب التعهد المطلوب- كي يصدر البنك بياناً يتراجع فيه عن التصريح السابق، ولا شك لدينا أن هناك عدداً من الشخصيات سواء في القطاعين العام أو الخاص يتجاهلون القيام بما يتعين عليهم فعله ولا رادع لهم.

وتنطوي التداعيات المتعلقة بتلك القضية على شقين: أولهما، أن  جون بيس بالتراجع عن تصريحه يعني أنه ضلل المستثمرين. وثانيهما، أنه اعتراف ضمني بأنه أخفق في إصدار بيان تصحيحي في الوقت المناسب مباشرة بعد حدوث الخطأ. فانتظار 11 يوم عمل من أجل تصحيح خطأ مادي واقعي يعد انتهاكاً صارخاً لقوانين الأوراق المالية الأميركي لأي شركة غير مالية، وبالطبع ليوقظني أحدكم إذا قام مجلس الأوراق المالية والبورصات الأميركي بتحريك دعوى قضائية ضد مصرف "ستاندراد شارترد" بشأن تلك الانتهاكات.

ومن الممكن طبعاً أن يكون جون بيس لم يتعمد انتهاك اتفاق التقاضي المؤجل لأنه لم يقرأ تلك الاتفاقية، أو على الأقل لم يتصفحها حتى صفحتها العاشرة... رغم أن من المعروف عنه حرفيته العالية وسجله المتميز في العمل. وفي كل الحالات، فإن ذلك لا يعطي سببا يجعل البنك ينتظر كل ذلك الوقت من أجل تصحيح الحقائق.

مسائل قيادية

عادة ما ينطوي الحديث عن مسائل أهل القمة على أهمية ومذاق خاصين، وهذا ما كشفته التقارير المتعلقة ببنك "جي بي مورغان تشيس" إزاء علاقته مع الهيئة التنظيمية، فقد أثيرت تساؤلات حول هل سيكون مديره التنفيذي، جيمي ديمون، متعاوناً بقدر أكبر مما كان عليه... فقد رفض، على سبيل المثال، في شهر أغسطس من سنة 2011 تقديم معلومات مفصلة حول مجريات العمل وطبيعته في مصرفه الاستثماري؟

وهناك تساؤل آخر... لماذا لم يطرد مجلس إدارة "ستاندرد تشارترد"، المؤلف من أعضاء يتمتعون بالموهبة والخبرة، جون بيس بسبب تعثره وإخفاقه؟ (أنا دعوته إلى تقديم استقالته على موقعي على الشبكة).

ولعل التفسير الوحيد المحتمل هو أن مجلس الإدارة لا يظن أن جون بيس ارتكب أي خطأ، وربما يعتقد أن القوانين الأميركية شاقة ومرهقة، وأن وزارة العدل جائرة وظالمة.

بالطبع هم لهم الحق في التمسك بآرائهم، لكن إذا أرادوا لمصرفهم أن يمارس أنشطته في الولايات المتحدة، فإن القانون هو القانون ويتعين احترامه، حسبما يفترض. هذا فضلاً عن أن الترخيص لتشغيل بنك في الولايات المتحدة، إذا استخدم بصورة مناسبة وسليمة، فإنه يوفر فرصاً واسعة لتحقيق أرباح كبيرة.

ومن جانبها، تساءلت عضوة مجلس الشيوخ عن ولاية ماساشوسيتس، إليزابيث، خلال جلسة استماع عقدت حديثاً، عن نوعية الأخطاء التي يتعين على الشركة ارتكابها كي تفقد ترخيصاً لأحد بنوكها في الولايات المتحدة... وقالت بصورة محددة "كم من مليارات الدولارات يتعين عليك القيام بتبييضها لمصلحة زعماء عصابات المخدرات"؟

وأجاب باول، من مجلس الاحتياط الفدرالي، قائلاً إن "سحب ترخيص أحد البنوك قد يكون إجراءً ملائماً عندما تكون هناك إدانة جرمية تستلزم العقاب".

لم أتمكن من العثور على أي حالة قام فيها مجلس الاحتياط الفدرالي بإنهاء أنشطة مصرفية في الولايات المتحدة بالنسبة إلى بنك أجنبي بسبب إدانته في جرائم تتعلق بأنشطة غسل أموال، كما أن مجلس الاحتياط الفدرالي لم يقدم على إغلاق بنك وقع اتفاق مقاضاة مؤجلا- كانت هذه المقاضاة في حالة "ستاندرد تشارترد" تمثل إقراراً بارتكابه عملاً جنائياً، كما أن المجلس لم يتخذ إجراءً عندما انتهك ذلك الاتفاق.

وللتعرف على سلطات مجلس الاحتياط الفدرالي بموجب قانون الأعمال المصرفية الدولية وما هو معمول به من سلطات على مستوى الولايات، علينا النظر الى قضية "بنك دايوا" الذي تلقى أمراً يقضي بإنهاء أنشطته المصرفية في الولايات المتحدة في سنة 1995. لكن لاحظوا معي ما ذا يحدث مع البنوك الكبيرة: لا تسمحوا بتداول غير شرعي في سوق السندات الأميركية؛ لأننا ربما لا نزال نتقيد بمعايير في هذا الشأن. وبالمناسبة، لم تصدر إدانة جرمية في قضية "بنك دايوا".

فضيحة الليبور

في الصيف الماضي، عندما بدا أن الرئيس التنفيذي لبنك باركليز روبرت دياموند أقل تعاوناً بشكل تام مع سلطات "بنك إنكلترا" المركزي إزاء توفير تفاصيل بشأن فضيحة "الليبور" تم طرده في غضون 24 ساعة. وأي مراقب مصرفي يملك الحق والالتزام لطرد مدير يعمل على إعاقة الأداء الملائم للنظام المالي.

يحاول المدير التنفيذي الجديد لبنك "باركليز" القيام بعملية تنظيف، وقد أفضى الأسلوب الجامح الذي ميز الإدارة السابقة الى رسم صورة ذهنية عن المؤسسة كلها ما أدى إلى خلق فوضى ذات أبعاد اقتصادية ضخمة.

هل سيتعرض أي رئيس تنفيذي رفيع المستوى في بنك "ستاندرد تشارترد" إلى الطرد؟ وهل سيفقد البنك قدرته على العمل في الولايات المتحدة؟ لا يبدو أيٌّ من هذين الأمرين ممكناً أو معقولاً في ضوء ما شهدناه حتى الآن.

إذا انتهك "ستاندرد تشارترد" أمر "وقف النشاط" الذي يصدر عن مجلس الاحتياط الفدرالي، فهل سيفقد بذلك ترخيصه؟

لن يفقده الرخصة، وذلك حسبما جاء على لسان باول في شهادته أمام الكونغرس، فمجلس الاحتياط الفدرالي (المركزي الأميركي) لا يملك قوة مؤثرة من أي نوع- على الأقل عندما يتعلق الأمر بالبنوك الدولية الكبرى، وهذا هو سر التحدي الذي يتسم به سلوك "جي بي مورغان" و"ديمون".

ولو أننا حاولنا القيام بعملية غسل أموال، حتى لو كانت عملية محدودة ومبالغ بسيطة فقد نتعرض إلى السجن... لكن عندما يقوم بذلك بعض موظفي أحد البنوك الكبرى- على مستوى ضخم وعلى مدى سنوات طوال- فلا توجد عواقب ذات بال.

Simon Johnson

* بروفسور في كلية الإدارة سلون لدى معهد التقنية في ماساشوستس وهو أيضاً زميل رفيع في معهد بيترسون للدراسات الاقتصادية الدولية، ومؤلف مشارك في "احتراق البيت الأبيض: الآباء المؤسسون، وديننا الوطني، ولماذا يعنيك ذلك".