«ولا قبلها من نساء ولا بعدها من أحد»... مسكونٌ بالمرأة

نشر في 20-05-2013 | 00:01
آخر تحديث 20-05-2013 | 00:01
No Image Caption
أمام ما يشهده الشرق من نار ومأساة يبدو أنّ شعر الحبّ يتراجع لمصلحة نصّ يرثي أرضًا وشعبًا وذاتًا ويحاول أن يكون بعضًا من تاريخ وفيّ لمعاناة الناس. إلاّ أنّ المرأة تبقى حاجة لا تقلّ شأنًا عن الأرض وتبقى لها حصّتها من القوافي ومن الشهداء. جديد الشاعر عبد الوهاب أبو زيد عاشق يخاطب المرأة.
في جديده {ولا قبلها من نساء، ولا بعدها من أحد} يُسكن الشاعر عبد الوهاب أبو زيد المرأة حصنًا من حصون الجمال حصينًا لا يشاركها فيه أحد، فالقوافي من ألف الديوان إلى يائه تنضح برحيق الأنوثة.

الحبّ عند الوهّاب اجتياح على ظهر الصهيل:

{يجتاحني حبّكِ في لحظة

مثل حصان عربيّ أصيل}،

وأجمل ما فيه أنّه يوقظ الرحلة في الرّجل إلى الأمكنة المجهولة على اكتفاء ورضا لأنّ العاطفة هي ترفع الصاري وتنسج الشراع:

{يأخذني في رحلة ما لها بدء

وما من غاية أو دليل}،

ويعرّي الحروف من إغفاءتها لتفتح اللغة صدرها وتستقبل بعضًا من نسيج عاشق:

{وينفض العجمة عن حرفي الغافي

بكفّيكِ كطفل خجول}.

ويروق لأبو زيد أن يعيد نفسه مرتاحًا لمعنى يتكرّر:

{أحدّق في عينيك أبصر غيمة

 تقود خطى روحي إلى حيث لا أدري}،

متجاهلاً سلبيّة التكرار الجائز نفسيًّا إلى ما لا نهاية بينما هو غير جائز نصّيًّا، لأنّ القارئ والشاعر يكونان أسيرَي دائرة ليس سوى الملل يرسمها بإتقان. ويسترسل أبو زيد في قصيدته بانيًا البيت الشعري الذي لا يبدو ممتلئًا إلى حدّ إحداث الهزّة أو الرعشة الغريبة في المتلقّي ربّما لأنّه لا يبحث عن الصورة الجديدة ويكتفي بالخيال العادي أو الكلاسيكي إذا جاز التعبير...

وفي قصيدة {أنا هنا} يحضر ظلّ الشاعر نزار قبّاني حين يعدّد أبو زيد أشياءه:

{هنا قصاصة شَعر من ضفائرها

هناك كأس تهاوى ها هنا طبق}،

فتستيقظ في ذاكرتنا كلمات نزاريّة الانتماء: {هنا جريدته في الركن مهملة / هنا كتاب معًا كنّا قرأناه}...

وممّا لا شكّ فيه أن أبو زيد متمكّن على المستوى الموسيقي واللغوي ويحكم القبض على عنق زجاجة القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة، غير أنّه يرضى بالقليل في أحيان كثيرة، فلا يطلب من خياله أن يعرق ليصطاد بشبكته فراشات الشعر الغريبة ولا يكلّف الجملة الشعريّة وسعها فيضرب الكلمة بالكلمة لأجل اشتعال صوّاني جميل:

{أكلّ ذلك ولّى؟ كيف؟! قد سئمت

من السؤال شفاهي مَلَّني الأرق}...

وفي العودة إلى جزيرة المعاني، يثمّن أبو زيد جدب السنين التي سبقت حضور المرأة المنتظرة وكأنّ اللحظات الذهبيّة في العمر تستحقّ سنين ترابيّة يمرّ بها الإنسان، لا سيّما العاشق:

{جدب السنين غفرت قسوته

 منذ ارتويت بريقك الخصر

 وغفرت للتسهيد ما فعلت

 كفّاه في جفنيّ بالسّهر}.

وكيف إذا كان للجسد حضوره أيضًا، فالمرأة عند أبو زيد تحضر كاملة بكلّ ما فيها من أناقة الروح والجسد بعيدًا من طقس الرّمل حيث لا يزال في الخيام ألف شيخ قبيلة يسنّ من القوانين ما يحرّم الحبّ ويحلّل الافتراس:

{فمك المنمنم في فضاء فمي

غيم وشباكان من مطر}...

وحين تمضي المرأة الساكنة قلب الشاعر ومحبرته يتفرّغ للبحث عنها في دنيا الأشياء، ناسبًا العري إلى السماء لا إلى الطبيعة:

{أسأل عنك الغطاء الذي ضمّنا عاريين

كما خلقتنا الطبيعة – أستغفر الله – أعني السماء}.

وهذا الكلام يظهر كم أنّ صاحبه يعتنق الجسد ويجلس طويلاً على بساط الوقت ليتقن أبجديّته:

{... يدي لم تكن بعد

 إلاّ الحروف الصغيرة

 في أبجديّة ذاك الجسد}.

وحين المسافة تمتدّ بين أبو زيد والمرأة يسمّي حبيبته {مهرة الروح}، ويشكو التكرار الذي يظهر إصابة اللغة بالشلل، ويشكو سرابًا بخيلا... ولا حلّ إلاّ بصهيل المهرة الذي يستطيع وحده أن ينقل الشاعر من الفراغ إلى الامتلاء وأن يضع له قلبه على كفّ الحقيقة. بعدما طال أسره في شبكة المسافة:

{أتعبتني الحروف الكسيحة

هذا الكلام المعاد

 وهذا السراب البخيل

... فاصهلي! اصهلي!

ربّما أنقذ الروح من وهدة الزيف هذا الصهيل}.

وفي قصيدة {منفى الصمت} يعلو صوت أبو زيد متشكيًّا من اللغة التي لا تتّسع إلاّ للظلام:

{أدخلي عتمة الحروف وهاتي

 حلمي المستكنّ في الظلمات}،

وهذا الظلام لا يضيئه إلاّ جنون الحبّ العاصف وهو بأمس الحاجة إلى نعمة الزلزال وخير البركان:

{زلزليني وبعثريني ومُرّي

مثل نار على هشيم رفاتي}،

لجأ أبو زيد إلى اللغة فخذلَته وعجزت عن إعلانه عاشقًا يستحقّ الحياة في خيمة القوافي، ما جعله يبني الصمت وطنًا متنازلاً عن كلّ ما تعده به اللغة:

{أثقلت عجمة الحروف لساني

 واستبدّت بجوهري وصفائي

... وطني الصمت فاتركيني أفنى فيه

 إنّي برئت من كلماتي}...

ومن قصيدة إلى أخرى يتأكّد انتساب أبو زيد إلى الحبّ، فهو المسكون بالمرأة التي يحلم بأن تعيد خلقه ليهرب من قدره الترابي ويحظى بكرسي على شرفة الخلود:

{وأعيدي كما تشائين خلقي

 إنّ ما تخلقين هيهات يبلى}.

ويصرّ أبو زيد على الوصف ناقلاً الصورة على كتف قلمه من نص إلى نص، ففي قصيدة {عيناك}، على سبيل المثال، يقول: {عيناك موسيقى بها تحلم الأوتار إذ تغفو بصدر الكمان}. وفي قصيدة {طعم اليقين} يقول: {عينان... بل لحنان من عبقرٍ}... دون أن ننسى نزار قباني قائلاً:

{عيناك كنهرَي أحزان

نهري موسيقى حَملاني}...

وليس إدمان الوصف بشكل نابٍ سوى إظهار الفقر في التجربة أو التجارب العاطفيّة إذ إنّ مناخ القصائد متشابه جدًّا تشابه القاموس المعتمد في كلّ منها وتشابه الصورأيضًا... والقارئ يترك القصيدة ويظنّ خيرًا بقليل من التحوّل المعنوي في القصيدة التالية إلاّ أنّ ظنّه يخيب ويجد نفسه دائمًا أمام شاعر يتوجّه إلى امرأة، كأنّها لا هي تتغيّر، ولا أحوالها تتغيّر إن لم تتغيّر هي، وكذلك الشاعر هو ثابت في مكان شعوري وشعريّ واحد، وليته سلك مسلك نزار قبّاني في تنوّع المواقف العاطفيّة أيضًا، ففي قصيدة قتل وفي قصيدة قُتِل... إنّ المرأة في جديد أبو زيد هي كالتمثال الذي لا يليق به إلاّ البخور والتمجيد – ولم يكن المطلوب إلاّ كسر شيء من هذا التمثال أحيانًا غير أنّ الشاعر مصرّ على تمثاله، ومكتفٍ بشرف أن يكون الوصّاف والضحيّة:

{أنا إن فاتني اللقاء فحسبي

أنّني كنت في عداد الضحايا}.

back to top