«كربلاء»... ولكن سنيَّة!
تضخيم انتصار نظام بشار الأسد وحزب الله في معركة "القصير" أكثر من اللزوم وإعطاء هذا الانتصار طابع الثأر التاريخي الطائفي ترَك جرحاً راعفاً ربما لن يلتئم لعشرات السنين، وكل هذا مع أن "القصير" بلدة صغيرة لا يمكن أن يحتفل باحتلالها إلا جيش يعاني هزيمة معنوية فادحة، ويشعر أنه بحاجة حتى إلى انتصار كاذب، لاسيما أن هناك مؤتمراً دولياً (جنيف2) سينعقد خلال فترة لاحقة قريبة، ومفاوضات مضنية ستجري في هذا المؤتمر الذي لاتزال تحوم حول انعقاده شكوك كثيرة."القصير" مجرد بلدة صغيرة ولا تحتل أي موقع استراتيجي كما روج الإعلام الموالي لحلف نظام بشار الأسد مع إيران وحزب الله وروسيا الاتحادية، إضافة إلى الإعلام الموالي والمساند للمعارضة السورية، ثم إن الذين راهنوا على إمكانية انتصار عشرات المسلحين بأسلحة فردية على جيش جرار زحف على هذه البلدة المعزولة بمئات الدبابات وألوف الجنود، الذين تساندهم كل الميليشيات التي يملكها حزب الله ومع هؤلاء على مستوى القيادة ضباط إيرانيون وشراذم طائفية جاءت من العراق واليمن ومن كل حدب وصوب وكل هذا تحت غطاء جوي وقصف مدفعي استمر أكثر من ثلاثة شهور، قد ارتكبوا خطأً فادحاً وثبت أنهم غير مؤهلين للتعاطي مع مسألة على كل هذا المستوى من التعقيد والتدخل والخطورة.
غير صحيح أن هذه البلدة الصغيرة المعزولة تشكل بموقعها الجغرافي عقدة استراتيجية تجعل من يحتلها يسيطر على سورية كلها وتجعل المنتصر في معركتها هو المنتصر في هذا الصراع الدامي الذي اتخذ منذ اليوم الأول أبعاداً إقليمية ودولية جعلت ما جرى في "القصير" هو كذلك الذي جرى في "بابا عمرو" في حمص أيّْ مجرد مناورة في ساحة عرضها بمقدار بُعْد موسكو عن واشنطن، ولم تجعل المنتصر فيها منتصراً ولا المهزوم مهزوماً. إنَّ أكبر وأسوأ وأخطر ما يجري في "القصير" أنَّه اتخذ صفة الحرب المذهبية البغيضة وأن الانتصار في هذه الحرب أُعطي طابع الانتصار التاريخي للشيعة على السنة، والدليل هو تلك الاحتفالات الهستيرية التي جرت في الضاحية الجنوبية من بيروت وفي بعض المناطق العراقية وفي طهران التي اعتبرت أنَّ هذا الانتصار يشكل رداً على هزيمة الفرس في القادسية الأولى وهزيمة الخميني في ما اعتبر قادسية ثانية.وحقيقة إن هذا هو ما أراده بشار الأسد منذ اللحظة الأولى، بل إن هذا هو ما أراده حافظ الأسد عندما انتزع من الإمام موسى الصدر فتوى بأن الطائفة العلوية جزء من المذهب الشيعي الجعفري الاثني عشري، وذلك مع أن هذا مخالف لحقائق التاريخ ويدحضه الواقع القائم فهذا النظام الذي أقيم في انقلاب عام 1970 قد بدأ طائفياً ووصل إلى هذه المواجهة مع الشعب السوري، وقد ازداد مذهبية وطائفية، ولذلك كان تحالفه مع إيران الخمينية حتى في ذروة حرب الخليج الأولى، وكان تحالفه المبكر مع حزب الله وصاغ تركيبة الدولة السورية على أسس طائفية وكون هذا الجيش على أسس مذهبية واضحة.لا شك في أن قول هذه الأشياء ونحن في القرن الحادي والعشرين يؤذي النفس ويوجع القلب ويؤلم الضمير، لكن ما العمل وقد أُعطيت المهرجانات، التي أُقيمت في القرداحة وفي ضاحية بيروت الجنوبية وفي المناطق العراقية وفي "قُمْ" وطهران وإيران كلها، انطباع بأن هذا الانتصار البائس هو انتصارٌ تاريخي للشيعة على السنة، وأن مذبحة "القصير" هي كربلاء جديدة ولكن لأهل السنة... وهذا كله قد فتح جرحاً راعفاً في جسد هذه الأمة، المليء أصلاً بالجروح، قد لا يندمل في عقود مقبلة طويلة.