ليست مقولة  {قد يكون اختيار الكلام أصعب من تأليفه} بعيدة من الحقيقة لأنّ من يقوم بالاختيار يضع يداً على قلبه ويحمل الكلمة الجميلة على كفّ يده الثانية بثقة لا تخلو من التردّد مهما كانت مسوّرة بالمعرفة والخبرة. ورغم أن الاختيار لا يخلو من المجازفة فإنّه عمل مفيد وضروريّ إذ إنّ النصوص الأدبيّة تتفاوت في أهمّيتها عند جميع حملة الأقلام الموهوبة، وقد يكون الكتاب الذي يضمّ النّخب المختارة الكتاب الملك لصاحبه... ماذا في جديد جمال جمعة  {اختراق حاجز الصوت}؟

Ad

في شهادة عبد الزهرة زكي التي تقوم مقام المقدّمة في مختارات شعريّة للشاعر جمال جمعة  {اختراق حاجز الصوت} آثر زكي أن يتحدّث عن فصول حياة مشتركة بينه وبين جمعة فلم ينجز دراسة مختصرة لشعره، غير أنّه رأى في صديقه شاعر الصورة:  {أحسب الآن أنّ جمال جمعة هو شاعر صورة بامتياز، وهذا ما يستطيع الناقد الأدبي ومعه القارئ أن يقفا عليه حتى في النصوص الطويلة التي أنجزها الشاعر، والتي ينتج ويضخّ من خلالها صوراً تتلاحق وتتراكب لتنتج وحدة النصّ الطويل}...

في قصيدة  {تكوين} يعلن جمعة إيمانه بالتلاشي، إذ إنّ كلّ شيء محكوم بالنهاية، فالمدن تنسحب من ذاتها إلى الغياب، والنجوم ترتدي سواد الليل بدلاً من ضائع لفضّتها، والكلمات تنتحر قفزاً عن شرفة المعاني، إلاّ أنّ البشر يستعيضون عن التلاشي بالتداخل، ويعيدون صياغة المدينة والنجمة والكلمة لائذين بالذاكرة والوجدان كتعويض لخسارات محتّمة:  {تتلاشى المدن/ تتلاشى النجوم/ تتلاشى الكلمات/ ونحن لا نتلاشي/ بل نتداخل/ مكوّنين/ مدناً/ ونجوماً/ وكلمات/ جديدة}.

لا تحتمل التأويل

 

في الانتقال من قصيدة إلى أخرى تتبلور لغة جمعة الشعريّة، فهي بسيطة كحياة لا تحتمل التأويل، غير أنّ بساطتها موشومة بمجاز يحفظ للواقع صدقه وحقيقته ويلبّي شهيّة الكلمة إلى الجمال بعيداً من الطلسمة التي تتباهى بما فيها من ضباب وقدرة على توليد الالتباس. ولافت أنّ لجمعة قدرة على الوصول إلى رعشة القصيدة من دون أن يحشد صُوَرَه وعدّة الخيال الكلاسيكي، وقصيدة  {تذكارات} خير مثال على ذلك:  {عندما قامت الحرب / اعتقد الناس أنّ إقامتها لن تطول/ فشرعوا بجمع التذكارات منها: / قطعة من جناح طائرة/ خرطوشة فارغة،/ شظيّة قنبلة/ رصاصة فاسدة... إلخ إلخ/ وكضيف ثقيل/ أخذت تشرب قهوتها ببطء... ببطء/ وكانت من الطيبة/ بحيث إنها لم تغادر/ حتى جمعت تذكاراتها منهم: /ساق رَجُل،/ عين امرأة،/ ذراع طفل/ إبن وحيد... إلخ... إلخ}.

الحرب تقيم في أعماق قلم جمعة، وتحيله ظلاًّ تحتضنه جدليّة الحياة والموت، فهو يعيش موتاً منتظراً وإن كان لن يأتي، لكنّه آتٍ دائماً تحت وطأة واقع ينزف بلا توقّف. وهذا الموت الذي يأتي ولا يأتي يؤلم الشاعر لأنّه يجبره على الاستقالة من لعبة الفصول التي ستواصل حياتها بعده؛  {... حيث يسلّ مسدّسه/ كي يغرس في جسدي/ طلقاتٍ خمساً/ ترديني./ في ذاك اليوم/ تظلّ تواصل دورتها الأرض/ ولن تقع الأوراق عليّ أسى/ أو تقف الريح}...

 

مجد الجدود

 

في قصيدة  {مجد الجدود الأوائل} يرتاح جمعة من الحاضر الطاعن في الدم والموت، ويمضي إلى الوراء، إلى بياض البداية، ونشوة البكارة في رحم الزمن، فيسترجع أجداده، يوم كان كلّ الناس ملوكاً، ويوم أغاظ العراقيون:  {... الشمس/ حين تداس لألأة لها/ تحت الحوافر}... إن الزمن الذي يستعيده الشاعر هو بمنزلة الأيقونة على صدر الوقت، لما فيه من حرّيّة، واكتفاء بالحريّة، ولما فيه من قوّة تعمل للحياة ولا تصطاد سوى فرح الحياة:  {نحن بارَينا الرِّياحا/ مسدلين الشَّعر فوق الكتف،/ فوق رؤوسنا التيجانُ/ والأقواس في يدنا/ ونصطاد الأيائل والأسود}. ويعلن جمعة أنّ ملوكه مسالمون وليسوا فاتحين، أقوياء للناس وليس عليهم، ولذلك هم الملوك الحقيقيّون المستحقّون تيجانهم من الذهب النقيّ:  {كنّا ملوكاً.../ وما يوماً سلخنا جلدنا عنّا/ ولا كنّا كواسر وافترسنا نوعنا،/ كنّا ملوكاً.../ وتُوِّجنا على هذا الأساس}.

وفي الانتقال من مجموعة شعريّة إلى أخرى في مختارات جمعة يتأكّد القارئ من أنّ الشاعر يسلك طريقاً واحداً، ربّما لأنّ الفجيعة تتواصل وتزداد نموّاً في الشرايين وبين أضلاع الصدر. وفي زحمة المأساة يقع جمعة في أسر الأسئلة ليفترسه كائن غريب اسمه: الحيرة:  {ما للأسئلة لا تهجع لا تدعني أبرح/ وكأني بها تحت نقطتها/ تحت أشدّ أماكنها حيرة/ واضعاً تاجها المعقوف كالمنجل على رأسي}. وكم هو جمعة موفّق في هذه المشهديّة، إذ استطاع أن يستثمر علامة الاستفهام شكلاً، ويظهرها تاجاً منجلاً، تاجاً يحصد الرأس الذي يرتاح عليه، بينما هو ليس سوى سطرٍ حزين تنتصب فوقه علامات الاستفهام التي لا ينال من قساوتها جواب.

 

لعبة الإيجاز

 

يبدو جمال جمعة قادراً على لعبة الإيجاز المكثّف، من دون أن يتسلّل الغموض القاتل إلى كثافته، كما في قصيدة  {الفصوص الاسكندنافيّة}، حيث استرسل الشاعر في التعريفات الشعرية الموجزة. فها هو الأصفر يبوح بهويّته الحقيقيّة قبل أن يملأه الموت:  {قال الأصفر: أنا أحمر ميّت}، وها هي الدموع تدافع عن انتمائها الأوّل وتقول حقيقتها لمن لا يظنّها أكثر من ماء:  {قالت الدموع: أنا دماء بيضاء}، وها هو العرش يغافل سيّده، ويبوح بماهيّته الأولى والأخيرة:  {قال العرش: أنا عظام شعب}، وها هو الصولجان يتشجّع إذ رأى العرش ثائراً مستغنياً عن وظيفته المذلّة:  {قال الصولجان: أنا ذراع طفلة}، أمّا جوهرة التاج فهي الأكثر حزناً والمشتهية القفز من حيث هي إلى كفن صاحبها:  {قالت جوهرة التاج: أنا عين شهيد}... ويتّضح ممّا سبق أنّ جمعة يحسن عصر جروحه على الورق، ويعرف من أين تؤكل كتف الحزن شِعراً، ويعرف كيف يسترسل ناجياً من لعنة التكرار الفارغ والتعداد الذي لا ينسجم مع الإيقاع الشعريّ. 

ومع الحبّ ينطلق جمعة إلى اليوميّ، والواقعيّ، والحياتيّ، وبأصابع تنتمي إلى الحياة يقطف صوره، داعياً خياله إلى الأرض لا راكضاً وراءه في السماء. فالدبابيس، وبكرة الخيطان، والإبرة، وكمّ القميص، والسقوف والكشتبانات... كلّها أشياء قصيدة حميمة، كلّها تشارك في القبض على زبد الشّعر دون أن تكون فوضى كلمات محوِّلة النصّ صندوق أشياء بيتيّة:  {قلبي مَغْرَز دبابيسكِ / عذاب ملفوف على بَكرة الخيطان / وإبرتك تروح وتجيء، / تروح تجلب الأنهار وتطرِّزها / على كمّ القميص وتجيء / ... تروح تسافر إلى الجنوب تملأ الكشتبانات / بظلال النخيل وتجيء}...

من المتعذّر الإلمام بقصائد  {اختراق حاجز الصوت} كلّها في إضاءة سريعة. إلاّ أنّ ثابتة لا بدّ من الاعتراف بها، وهي أنّ جمال جمعة شاعر ذو ظلال خاصّة، وممّا لا شكّ فيه أنّ التميّز الأسلوبي بعد زمان الحداثة الشعريّة أصبح شديد الصعوبة لأنّ سواد الحداثة الأعظم لا يبدو له وجود خارج دائرة الطلسمة.