أقيم في مسكني هذا قرابةَ 15 سنة. على الرصيف، عند مدخلِ البيت شجرةُ تفاح بالغِ صِغَرِ الحجم. قال جاري من بلد السيكيوم تعارفنا: إن تفاحَها لا يصلح إلا لصنع النبيذ. آخر منحدر الشارع الذي أقيم على مرتفعه تقع محطة أندرغراوند لخط «السنترال» الذي يقطع قلب لندن من شرقها إلى غربها. ولأن لكلِّ خطٍ في شبكةِ المواصلاتِ اللندنية تحتِ الأرضية هنا لوناً خُصّ به فخطُّ السنترال أحمرُ اللون. وحين يعنُّ لي أن أغادرَ البيت، وقليلاً ما أغادره، باتجاه نشاط موسيقي، فني أو ثقافي في قلب لندن، أجدُني أنحدرُ إلى هذه المحطة.

Ad

على مقربةٍ من بيتي في Greenford

تتوقّفُ عرباتُ الـCentral line 

لحظاتٍ، ثم تولي تقطعُ لندنَ نصفينْ

تأخذُني، حين تلحّ عليَّ الاسئلةُ: إلى أينْ؟

نعم، «إلى أينْ؟» تتكرر مُلحةً. أعترفُ أني، بعد مئات المرات التي خرجتُ فيها، وجدتُ وكأن أمرَ التساؤلِ حدث فجأةً، لحظة توقفتُ حائراً أتساءلُ إذا ما كنت خرجتُ من البيت لهدفٍ أقصده عن وعي ونيةٍ مُبيتةٍ، أمْ خرجتُ تحت تأثيرِ هدفٍ اقتَرحَه، إن لم أقلْ فرضَه، عليَّ خطُّ السنترال الأحمر؟ إنه قادرٌ أن يفرضه عليّ، لأني في كل مرةٍ أتركُ البيتَ أتّجه إليه، ولا خيار. أرتقي إحدى عرباته، وأعرفُ عنْ غيبٍ كلَّ محطة يقفُ فيها. ولابدَّ أنّ عنصراً يخصُّ اللاوعي في كياني يشارك من حيث لا أعرف في نسيج هذه العملية. أقصدُ عمليةَ التوجّه واختيارِ الهدف..

لشوارعَ ومبانٍ وحدائقَ أفسدَها التكرارْ،

أتصيّدُ بين مراياها النُسخَ الحائلةَ اللونِ لوجهي،

ثم أعودُ بذات «الخطِّ الأحمرِ» للدارْ.

من إطلالة Waterloo يُدهشني أن كمالَ المشهد سرعانْ

ما يبدو لي لوحةَ فوتوغرافٍ بإطارْ

في معرض،

وأنّ الحشدَ السائحَ، إذْ تتبعثر فيه الألوانْ

كوليمةِ عرسٍ، يبدو ليعرْضاً في شاشةِ تلفاز.

  يحدث هذا، رغم سحر المشهد، بفعل التكرار ربما. وربما بفعل ذاكرة الماضي التي تمتص دمَ المشهد في الحاضر لتتركه شاحباً لا حياة فيه. وربما بفعلِ حالة اغتراب مرَضيةٍ أُخفيها عن إرادةٍ.لا أعرف تماماً كيفَ أُمسكُ بطرفِ الخيطِ، أُتابعُه كيْ أخرجَ من متاهةِ الأسئلة. حينَ أُدعى لحفل ما أتكوّر مثل فراغٍ أصلب من حصاة،

وإذا ما اقتحمتْ كلَّ محاذيري

سيدةٌ في حفلٍ، أتَلبَّسُ دورَ المنفي 

عن غير إرادة.

هذا الأمرُ يُدهشني أنا الآخر. إذْ كيف يتلبّسُ المنفيُّ دورَ المنفيّ مُرغَماً؟ ألا يقتحم اللاوعيُ المشهدَ من جديد؟ وأعود أخيراً إلى البيت،

وإذا ما انتصفَ الليلُ

واسترختْ قدّامي فوقَ المقعدِ سنواتُ العزلةِ والتيه،

في هيئةٍ سيدةٍ هرمة،

أخرجتُ جوازَ السفر 

وقضينا الليلَ نحدّقُ فيه.