أشار ابن خلدون في "مقدمته" إلى مساوئ "الأعراب" وكان في نقله عن ابن منظور في "لسان العرب" يميز بين العربي والأعرابي، وإذا قيل لأعرابي إنه عربي سُرّ لذلك! وقد تنبّه في جزء من المقدمة إلى أن الإسلام يمنع عودة العربي المسلم إلى الحياة الأعرابية، ولو احتفظ بدينه، نقلاً عن المصادر التاريخية والدينية. لكنه في تاريخه وفي حديثه عن الأعراب افتقد هذا التمييز بين العربي والأعرابي، وقد مرت قرون عدة على ذلك التمييز، وافتقد حس التفريق بينهما.

Ad

لقد كان أهل المدن- وابن خلدون منهم ومتأثر بتفكيرهم- يراقبون تحرك قبائل "العرب" حول المدن، ويتخوفون مما فعلوه، وكان قد مر زمن طويل على التمييز بين العربي والأعرابي، وقد تأثر ابن خلدون بمصطلح عصره، واستخدم ذلك المصطلح دون تمييز، وفي إشارته إلى مساوئ أعراب عصره يتساءل المرء أين هم "العرب"... عرب الحضارة الذين خلقوا الحضارة العربية؟

وثمة عذر آخر لدى ابن خلدون، وهو أن هؤلاء العرب من سكان المدن، ومن عرب الحضارة، كان انتماؤهم للإسلام، فإن أطمأنوا لهذا الانتماء، كانت مفاخرتهم بمدنهم التي يسكنونها فالبغداديون يتحدثون عن فضائل بغداد، والبصريون يفاخرون بالبصرة ومآثرها، والقرطبيون بفضائل قرطبة، والقاهريون بمفاخر القاهرة، والإسكندريون بالإسكندرية، والدمشقيون بدمشق، والحلبيون بحلب، وهكذا... كان الارتباط بالمدينة قد تجاوز الانتماء القومي.

وإذا كان ابن خلدون قد تنبه للعصبية القومية، فإن هؤلاء قد استبدلوا بها عصبية مدنية.

وقد تحدّث ابن خلدون عن "عصبية عربية" و"عصبية فارسية" وأخرى تركية، وقال إن هذه العصبيات قد تتابعت على حكم الدولة الإسلامية.

ويستغرب المرء كيف تنبه ابن خلدون إلى هذه العصبيات القومية، وتجاوز العصبية "المدنية" التي ربطت بين سكان المدن، فسكان المدن هم خلاصة العرب وطليعتهم، وهم الذين أبدعوا العمار وتخطيط المدن وكل العلوم والمعارف التي تميزت بها الحضارة العربية الإسلامية وغرفت منها أوروبا.

والاهتمام بتحركات "الأعراب" حول المدن المغربية، لا يمثل إلا وجهاً من وجوه التاريخ العربي، وقد أطلقهم الفاطميون من الصعيد لأسباب سياسية، ونكاية بأهل المغرب الذين شعروا بالغيرة من تقدمهم ورفضهم الخضوع لهم.

وما سجله ابن خلدون عن "العرب" كالشعر ديوان العرب، وأنهم لا يسلمون الرئاسة لأحد غيرهم، ينطبق فقط على "الأعراب" لا "العرب"، ولا بد من تحفظ هنا، فالعرب الحضر من سكان المدن أبدعوا في كل شيء عدا السياسة، والحضارة العربية الإسلامية ما زالت تعاني فقر دم سياسياً رغم إبداعها في العلوم والمعارف وسائر فروع الحياة، وقد لاحظ ابن خلدون في "مقدمته":

"وأهل الحاضرة عيال على غيرهم في الممانعة والمدافعة"، والصراع بين المفهومين "العروبة" و"الأعرابية" قديم، وقد لاحظه كل من درس المنطقة العربية.

فلو عدنا إلى العوامل والجذور الاجتماعية العميقة، والبعيدة الغور التي أثرت في تكوين المجتمع العربي، لوجدنا أول ما نجد أن المنطقة العربية تتصف بخصوصية جغرافية وبشرية تكاد تنفرد بها بين مناطق العالم الأخرى، وهي أنها منطقة تضم أقدم مراكز الحضارة في تاريخ البشرية كمدن وادي الرافدين ووادي النيل وإقليم اليمن، ومدن الساحل السوري والساحل التونسي، وتضم في الوقت ذاته أوسع وأجدب الصحارى في العالم كصحارى جزيرة العرب، وبادية الشام التي تفصل بين العراق وسورية، وصحراء سيناء التي تفصل بين المشرق ومصر، والصحراء الغربية التي تفصل بين ليبيا ومصر، وإقليم المغرب العربي كله، ثم امتدادات الصحراء الإفريقية الكبرى التي تفصل بين  ليبيا والسودان، وتصل إلى جنوب الجزائر لتشكل فواصلها الإفريقية الكبرى التي تفصل بين ليبيا والسودان، وتصل إلى جنوب الجزائر لتشكل فواصلها هناك مساحات صحراوية أو شبه صحراوية بين أقطار دول المغرب العربي.

فكأن مراكز التحضر العربي بمنزلة جزر منفصلة عن بعضها تحيط بها أمواج الرمال من كل جانب، فتهددها بالتصحر ليس مفاجئاً فحسب، بل حضارياً وفكرياً كذلك، إلا أن هذه المقابلة الجغرافية- الفكرية الحضارية وجدت ديمومة تاريخية، هي مفارقة التكامل والتجاذب والتصارع بين ظاهرة الحضارة وظاهرة البداوة أو بين واقع الاستقرار الحضري وواقع الارتحال البدوي.

في تلك الصحارى وبواديها، بحيث أصبح تاريخ المنطقة العربية، منذ أقدم العصور خاضعاً لقانون المنطقة العربية، تسود قوى البادية ردحاً من الزمن، يقصر ويطول على حسب قوة المركز الحضاري المسيطر، ثم تأتي موجة رعوية أخرى لتسود الحاضرة وتغيّر من طبيعة تكوينها السياسي والاجتماعي والفكري... وهكذا.

هذا القانون اكتشفه وحلله بدراية وعمق فيلسوف التاريخ العربي عبدالرحمن بن خلدون الذي أرى أن أي تحليل آخر لا يقدم تفسيراً لذلك، قبل القفز إلى تبني مناهج علم الاجتماع الأجنبي من مادي وليبرالي وغير ذلك، لأن ابن خلدون قد استمد رؤيته تلك من الخصوصية العربية، بينما تلك التفسيرات مستمدة من خصوصيات أخرى.

إن ذلك "الديالكتيك" الخاص بالمجتمعات العربية اكتشفه وحلله ابن خلدون ويمكن استخراج شواهد تاريخية عديدة منه، وبالإمكان فهم الشخصية العربية من خلال ذلك "الديالكتيك"، إلا أن ذلك يحتاج لدعمه بمقالة أخرى نناقشه من خلالها.

* أكاديمي ومفكر من البحرين