فجر يوم جديد :على جثتي
هل كان أحمد حلمي بحاجة إلى استنساخ فيلمه الناجح «1000 مبروك» ليخرج على جمهوره ومحبي سينماه بهذا المسخ المسمى «على جثتي»؟ سؤال طاردني عقب مشاهدتي الفيلم الجديد الذي طُرح في صالات العرض السينمائي في الأيام القليلة السابقة، وولد لدي شعوراً بالصدمة لركاكة معالجته، وغموض توجهه، والطلاسم الكثيرة التي ذخرت بها أحداثه، ولم أجد لها حلاً أو مبرراً.كتب الفيلم شاب تنقصه الخبرة يُدعى تامر إبراهيم، وأخرجه محمد بكير الذي لا يحمل في رصيده سوى مسلسلين دراميين؛ أولهما شارك في إخراجه مناصفة، والثاني تصدى لإخراجه منفرداً وحظي بنجاح جماهيري وتقدير نقدي لا يؤهلاه لتحمل مسؤولية فيلم بطولة أحمد حلمي، الذي عُرف باختياراته الدقيقة وطموحه غير المحدود وقدرته على التجديد والتمرد على السائد والمألوف. بدا الفيلم مضطرباً ومرتبكاً، ويحتاج إلى مذكرة تفسيرية لفك نفك طلاسمه، ويتسنى لمشاهده فهم رسالته أو التعرف إلى أبعاده.
يحكي فيلم «على جثتي» أزمة المهندس «رؤوف» الذي يتعامل مع مرؤوسيه بكثير من الشك و{الديكتاتورية» وانعدام الثقة، والشعور الدائم أنهم يتآمرون ضده، فضلاً عن تسلطه وحذلقته وبطشه، وتعامله مع موظفيه وكأنهم قطع من الدومينو يُطيح بها بضربة واحدة، والحال نفسها مع زوجته (غادة عادل) ضعيفة الشخصية المنقادة والمحبة، التي يُخضعها لإرادته ومشيئته وغروره وقسوته، التي يمارسها أيضاً على ابنه المقهور الذي نزع عنه براءته وأراده صورة منه، بإجباره على قراءة «البحتري» و{مقدمة ابن خلدون» وارتياد الأوبرا ليشاهد باليه «كسارة البندق».هذا الإنسان الفظ صاحب الكلمة التي لا تُصد ولا تُرد يبدو رحيم القلب وشديد الحنو على كلبه، حتى إنه يُغادر القصر الذي يملكه ليستدعي الطبيب لعلاجه من وعكة صحية مفاجئة، وأثناء ذلك تنقلب سيارته ويتعرض لموت مُحقق ينجو منه بأعجوبة ليفاجأ بأنه غير مرئي أو «شبح» بالنسبة إلى من حوله، باستثناء رجل آخر (حسن حسني) يتفهم ما جرى له كونه «شبحاً» مثله، ويؤكد له أنه فارق الحياة مثله، ونعرف أن روحه معلقة بين السماء والأرض، وتصبح الفرصة مواتية ليرصد رأي المحيطين به في شخصه، ويكتشف أن أحداً لم يحبه لفرط ما ارتكب من إساءات، ويُدرك أن أمامه فرصة أخيرة، إذا ما فارق الغيبوبة، ليُصلح الأخطاء قبل فوات الأوان. فكرة جديدة ومبتكرة لدرجة أنك لا تصدق أنها مصرية، أو من بنات أفكار تامر إبراهيم، بل مُقتبسة عن فيلم أجنبي، تحديداً الفيلم الأميركيJust Like Heaven ، الذي عجز السيناريست عن فهم فلسفته وتفهم أبعاده، فما كان منه سوى أن أغرق المتلقي في دهاليز ومتاهات وأحداث مُبهمة ومواقف مرتبكة وحوارات مُعقدة، تصور أحمد حلمي أنها تروي ظمأه في البحث عن السينما المختلفة، التي يسعى إليها دائماً، ولم يفطن إلى أنه سقط في بئر سحيق التبس على الجميع فهمه. حتى إن أحداً لا يتبين ما إذا كان يقرأ الغيب أو يتوهم عندما يستيقظ من غفلته فيرى عسكري المرور وهو يُحرر له مخالفة، وعندما يشعر أن موظفيه يتآمرون عليه، وفي موقف لاحق يتخيل أن زوجته تتخلى عن تحفظها، وترغب في السيطرة على منصبه، بينما يحطم ابنه متعمداً ومتمرداً، الفازة الثمينة التي يملكها. من الناحية الشكلية، نجح المخرج في تقديم بطله في صورة كلاسيكية بنظارته وشاربه وطريقته التقليدية في ارتداء ملابسه، كذلك نجح السيناريو في تصوير صدمته وخيبة أمله في أولئك الذين تمنوا لو طالت غيبوبته، وصبوا اللعنات على شخصه، ليبدأ في مراجعة حساباته ويتصالح مع ذاته والآخرين. لكن ظل الارتباك قائماً والحشو زائداً، وكأن ثمة حلقة مفقودة في الفيلم الذي عانى الإنتاج الفقير، وافتقر إلى إمكانات تقنية كانت ضرورية في مثل هذا النوع من القضايا «الميتافيزيقية»، الأمر الذي أضاع بريقه وحيويته وأوقعه في دائرة الملل والبلادة وثقل الدم وعقم الخيال.في ظل هذا السياق المرتبك، وبفعل الإفلاس الفكري والإنتاجي، انقلبت البداية المبشرة لفيلم «على جثتي» إلى «سفسطة» عبثية حول القانون وروحه، والنفاق خشية العقاب، وأهمية الحسم من دون قسوة، وضرورة تبيان الصورة الكاملة كي لا ننطق بنصف الحقيقة، وتنعدم ثقتك، بل تخون من حولك، كذلك تسبب ضعف المخرج وقلة خبراته في ظهور الممثلين في حالة سيئة للغاية، وجاء الأداء رتيباً وباهتا بدرجة مزعجة، يتساوى في هذا غادة عادل وأيتن عامر مع إدوارد وخالد أبو النجا وسامي مغاوري وعلا رشدي وعلي الطيب بينما بدا أحمد حلمي وكأنه سيتقيأ في وجوهنا وهو يؤدي دوره بغير شهية، ويُعاني سقماً، وظلت الكاميرا (تصوير أحمد جبر) سجينة الأماكن المغلقة (القصر، المعرض والمستشفى)، وجاءت الاستعانة بالمعزوفات الشهيرة (موسيقى سلسلة أفلام «مهمة مستحيلة») كنوع من الحذلقة ليس أكثر.