مدفع... وفانوس!
شهر رمضان على الشاشة الكبيرة يعني أغنية «وحوي يا وحوي»، التي غنتها «الطفلة» هيام يونس في فيلم «قلبي على ولدي» (1953) من بطولة كمال الشناوي وزكي رستم وإخراج هنري بركات. كذلك يعني حرب أكتوبر 1973 ميلادية، التي اندلعت في العاشر من رمضان عام 1395 هجرية، واتسمت أفلامها بقدر غير قليل من الاستخفاف والزيف والتلفيق، بدليل أن أحدها يصور مشهداً لمقهى شعبي مكتظ بالرواد، وعندما يُعلن المذياع عن اندلاع الحرب يُهلل الجميع، ويتبرع صاحب المقهى بتوزيع المشروبات مجاناً، على رغم أن الحرب اندلعت في الثانية ظهراً؛ أي في ذروة ساعات الصيام! بالطبع، ثمة حالات استثنائية تعاملت فيها السينما المصرية مع الشهر المبارك بجدية، كما حدث في فيلم «عسل أسود» (2010) من إخراج خالد مرعي، الذي ألقى كاتبه خالد دياب الضوء على خصوصية شهر رمضان في مصر دون غيرها من دول العالم؛ فالبطل (أحمد حلمي) يصل إلى مصر في الشهر الذي يحتفل فيه أهلها بشهر الصيام، بعد غربة عن الوطن دامت 20 عاماً، ومنذ اللحظة التي يُغادر فيها المطار يتردد في الأجواء صوت الشيخ محمد رفعت، عقب آذان المغرب، وعلى إيقاع ابتهالات المنشد سيد النقشبندي يتناول الفول، ومع دخوله الحارة القديمة التي ولد فيها، ووصوله إلى بيت العائلة يٌشارك الجيران في تناول الإفطار، والاستمتاع بالأطباق والمشروبات الرمضانية الشهيرة، وإحياء العادات اليومية المتبعة في الشهر الفضيل، وعلى رأسها مائدة الرحمن التي تُقدم الطعام للفقراء والمحتاجين مجاناً.
هنا نلاحظ أن فيلم «عسل أسود» لم يكتف برصد الطقوس الرمضانية وتوثيقها، بل ينتهز فرصة اقتراب رمضان من الاكتمال ليُقدم صورة بانورامية لوقفة عيد الفطر المبارك؛ حيث تتردد في الخلفية أغنية «يا ليلة العيد» لأم كلثوم وسط انشغال بنات العائلة بإعداد «صواني الكعك»، وتحمل الأولاد مسؤولية الذهاب بها إلى الأفران الشعبية، ومع أول أيام العيد تؤدي الجموع المحتشدة في الساحات والميادين المفتوحة الصلاة الجماعية، وتبدأ الأمهات في توزيع «العيدية»، التي يُسارع الأطفال بإنفاقها على «البمب»!على الوجه الآخر، بدا الأمر مختلفاً بصورة كبيرة في فيلم «ضربة معلم» (1987)، فالمخرج عاطف الطيب والكاتب بشير الديك انطلقا من رؤية مغايرة للسائد والمألوف عندما اختارا أن يبدأ الفيلم بلقطة مكبرة لفوهة مدفع ينطلق إيذاناً بموعد الإفطار في شهر رمضان، ثم تعقبه باقة من الأصوات الجماعية التي ترفع آذان المغرب، يقودها الشيخ محمد رفعت «قيثارة السماء»، كما أطلق عليه كاتبنا الكبير محمود السعدني، وارتبط صوته بلحظة الإفطار في الشهر الفضيل، وطوال أحداث الفيلم، الذي يحكي قصة ضابط شرطة (نور الشريف) يُصر على مواجهة طاغية فاسد (كمال الشناوي) يسعى إلى إنقاذ ابنه (شريف منير) من حبل الإعدام، عقب ارتكابه جريمة قتل، مستغلاً شبكة علاقاته الواسعة بأصحاب السلطة والنفوذ في الدولة. نُدرك يقيناً أن «المدفع» في فيلم عاطف الطيب لم يكن مجرد قطعة «أكسسوار» أو حلية زائدة، بل يعكس تحريضاً واضحاً من المخرج وكاتب الفيلم، للشعب كي يستيقظ من غفلته، وينتفض ضد الأوضاع المتردية، فضلاً عن الإيحاء بأننا حيال حرب حقيقية تحتاج إلى «المدفع» الذي يُدمر حصون الفساد، ويُطيح أباطرته الذين انتهكوا حُرمة الشهر المبارك، وعاثوا في المجتمع سرقةً ونهباً وتدميراً لمقدراته. هذه الرؤية المتمردة، التي ابتعدت عن التركيز على «الطقوس» الرمضانية والأجواء الكرنفالية، أضفت أهمية وخصوصية على تجربة فيلم «ضربة معلم» مُقارنة بتجارب سينمائية كثيرة لم تقترب البتة من رمضان، بينما سقطت أخرى من الذاكرة، كونها لم تر في شهر رمضان سوى «فانوس» في أيدي الأطفال، و»مكسرات» على المائدة، ولم تفطن إلى القيم الروحانية التي يرسخها الشهر الكريم، وتصلح كنواة لصنع فيلم تثويري بامتياز، كما فعل عاطف الطيب في واحدة من المرات القليلة والنادرة التي أمكن فيها للسينما المصرية، وربما العربية، توظيف المفردات والطقوس الرمضانية لتوجيه رسالة تنويرية تحث على نبذ الغفلة، وبث روح التحدي والتحلي بقيم التسامح، عبر حشد الأسلحة التي تحرض الجمهور، ليس على التمسك بالقيم والأخلاقيات فحسب، وإنما مطاردة الفساد وتعقب المفسدين، مع توظيف الأيقونات الشهيرة، كالمدفع والفانوس وابتهالات النقشبندي وصوت الشيخ محمد رفعت، لاستنهاض همم الأمة وبث روح المقاومة والتحريض ضد أشكال العنصرية، وهي الرؤية التي تجعل من شهر رمضان على الشاشة أيقونة للثورة والحرية.