بائعة الكبريت وبائع «البطيخ»!
التساؤل المؤرق هنا والذي يمكن اعتباره الأكثر تعقيداً في قضية الشاب البدون «محمد»: ما الفائدة من سجنه خلف القضبان ووضعه تحت الاختبار القضائي لمدة شهر تحت إشراف وتربية وتوجيه مراقب السلوك، بينما هو وكل أقرانه مسجونون منذ ولادتهم بلا جواز سفر في سجن كبير أصروا أن يطلقوا عليه اسم «وطن»؟!
"وفي إحدى ليالي عيد رأس السنة، كان الثلج يتساقط بغزارة، والبرد القارس يلف الشوارع، كانت تلك الفتاة الصغيرة تبيع أعواد الثقاب وتجوب الطرقات عارية القدمين، راجية أن يشتري أحد المارة منها بعض الكبريت، إلا أنها ولسوء الحظ لم تحظَ بزبون واحد، ولم تكن تجرؤ العودة إلى منزلها فقد يضربها والداها لأنها لم تعد بأي قطعة نقدية! جلست تلك المسكينة في زاوية بين البيوت، وتجمدت أطرافها من البرد، فأخذت تشعل أعواد الثقاب، واحداً بعد الآخر، إلى أن نفد منها الكبريت. وعندما أشرقت شمس النهار، أخذ الناس يمرون على تلك الطفلة الصغيرة بعد أن تجمدت من البرد وفارقت الحياة!".كان ذلك اختصار وتلخيص لحكاية "بائعة الكبريت الصغيرة" التي أبدع فيها الشاعر والأديب الدنماركي "هانس أندرسن" ونشرها للمرة الأولى عام ١٨٤٥، لتصبح إحدى أروع الحكايات العالمية.
تذكرت وقائعها اليوم بعد أن صعقني خبر سجن "محمد" ذلك الشاب "البدون" ذو الـ١٨ ربيعاً، حيث تم القبض عليه بالجرم المشهود، بعد استغلاله بسطة "غير مرخصة" لبيع "البطيخ"!ذلك العمل المشين الذي اقترفه "محمد" علّه يكسب رزقا حلالا، ويكفي نفسه وأسرته ذل الحاجة إلى تلك القلوب المتجمدة من حوله، والتي هي اليوم أكثر تجمداً وقوة من ليلة رأس السنة التي عاشتها بائعة الكبريت! وإذا كانت تلك الطفلة الصغيرة قد عانت برد الشتاء وتخاذل مجتمعها ليلة رأس السنة، فإن "محمد" وآلافاً ممن هم على شاكلته، قد عانوا منذ أكثر من خمسين سنة، وما زالوا يعانون مجتمعاً متجمد المشاعر وغير مبالٍ، إلا من رحم ربي، وقوانين أفقدتهم حتى الهوية وطعم الحياة!والتساؤل المؤرق هنا والذي يمكن اعتباره الأكثر تعقيداً في قضية الشاب البدون "محمد": ما الفائدة من سجنه خلف القضبان ووضعه تحت الاختبار القضائي لمدة شهر تحت إشراف وتربية وتوجيه مراقب السلوك، بينما هو وكل أقرانه مسجونون منذ ولادتهم بلا جواز سفر في سجن كبير أصروا أن يطلقوا عليه اسم "وطن"!خربشة:آخر الدواء... "حشد"!